للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حديث الرجل الذي أمر بنيه أن يحرقوه ويذروه]

من تلك المسائل مسألة العذر بالجهل بعموم قدرة الله عز وجل، وإنكار معاد الأبدان إذا تفرقت، فذلك الرجل جهل قدرة الله عز وجل العامة، وأنكر معاد الأبدان إذا فرقت، كما أوصى، وأساس اختلاف العلماء في هذه القضية مبني على تفاوت فهمهم وتفسيرهم لخطة ذلك الرجل.

ونص الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن رجلاً حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، وأوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يوم ريح فذروه في اليم.

ففعلوا، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له)، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.

وقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذاك: (وكان نباشاً).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه.

يعني: هذا الرجل قد أسرف على نفسه في المعاصي، كما جاء في بعض الروايات الأخرى أنه أسرف على نفسه في خوض بعض المعاصي، حتى إذا حضره الموت خاف من لقاء ربه عز وجل، وغلبت عليه خشيته من عذاب الله، وكان يظن أنه إذا فعل ذلك فإن الله لن يقدر على جمعه، فلذلك أوصاهم هذه الوصية، كما يفعل الهنود من الإحراق بعد الموت، فأوصاهم أن يحرقوه حتى يمتحش تماماً وتخلص النار إلى عظمه، ثم يأخذوا ما تبقى من رماده وينتظروا يوماً ذا ريح، وفي بعض الروايات أنه قال: (ألقوا جزءاً منها في البر، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجو) أي: في الهواء، فجمعه الله تبارك وتعالى وسأله لما مثل بين يديه: لم فعلت ذلك؟! فقال: من خشيتك.

فغفر الله تبارك وتعالى له.

فالشاهد أن هذا الرجل قد غفر الله له، فدل على أن هذا الرجل لم يمت مشركاً؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:١١٦].

وهذا الاعتقاد الذي اعتقده ينبئ عن أنه كان يجهل أن الله على كل شيء قدير، وكان يجهل قدرة الله عليه، لذا أوصى بأن يفعل به ما فعل، ظناً منه أنه إذا ذهب جزء منه في البحر، وجزء في البر، وجزء في الهواء فإن الله لا يقدر على جمعه، والشك في قدرة الله تبارك وتعالى كفر أكبر، لكنه كان يجهل ذلك على تفسير فريق من العلماء الذين استدلوا بهذا الحديث على الإعذار بالجهل، وبعضهم عمم فقال: يعذر بالجهل عموماً في العقيدة، وبعضهم خص الإعذار بالجهل في الصفات.

فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهل بذلك، ضال في هذا الظن مخطئ، فغفر الله له ذلك.

يقول شيخ الإسلام: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى ذلك أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره، وهو بين في عدم إيمانه بالله تعالى.

لأن بعض الذين يريدون إبطال دلالة هذا الحديث يقولون: قوله: (فوالله لئن قدر الله علي) هو مثل قوله تبارك وتعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:٢٦]، يعني: لئن ضيق الله علي.

أو هو كمثل قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧] يعني: لن نضيق عليه، ولن نبتليه، ولن نمتحنه.

وهذا -في الحقيقة- يفسد معنى الحديث؛ لأن معناه يصير: فوالله لئن ضيق الله علي ليضيقن علي.

يقول شيخ الإسلام: من تأول قوله: (لئن قدر الله علي) بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه؛ لئلا يجمع ويعاد.

السبب في هذا كله: أنه ظن أنه بذلك -والعياذ بالله- سوف يعجز الله عن أن يجمعه ويعيده ويحاسبه، وقال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر)، أي: أنا آمركم بذلك حتى لا يجمعني الله، فوالله لئن قدر الله علي وعلى جمعي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقب الأولى، وهذا يدل على أنها سبب لها، فهذه فاء السببية، حيث فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا لم يفعل ذلك لم يكن في ذلك فائدة له.

وكلام الحافظ ابن حزم في هذه المسألة هو شجى في حلوق الذين ينحون منحى عدم الإعذار بالجهل في هذه القضايا.

يقول ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه: إن معنى (لئن قدر علي) إنما هو: لئن ضيق الله علي.

كما قال تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:١٦]، وهذا تأويل باطل؛ لأنه سيكون معناه حينئذ: لئن ضيق الله علي ليضيقن علي.

وأيضاً: لو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى، فهذا من الأحاديث المشهورة في هذا الباب.

ومن أهل العلم من استشكل المغفرة لهذا الرجل مع إنكاره للبعث والقدرة، حتى قال بعض العلماء: إنما قال ذلك الرجل هذا في حال الدهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب هذا الخوف بعقله لما يقول.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما صدر منه.

وقال الخطابي رداً على من تأول هذا الحديث على غير وجهه فإن قلت: كيف يغفر له وهو منكر بالقدرة على الإحياء؟! قلت: ليس بمنكر؛ إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا صنع به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب، وحيث قال: (من خشيتك) علم منه أنه رجل مؤمن فعل ما فعل من خشية الله، ولجهله حسب أن هذه الحيلة تنجيه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.

فهذا الحديث من أشهر الأدلة التي استدل بها من عذر بالجهل في قضية في قضايا الأصول أو قضايا الإيمان، وبعضهم -كما ذكرنا- خصها بقضايا العقيدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>