للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى السلفية باعتبارها منهجاً في الحق

السؤال

ما هي السلفية باعتبارها منهجاً في الحق وفي الفهم والسلوك، وهل يجوز أن تحاصر السلفية بحيث يعبر بها عن إطار حزبي معين؟

الجواب

السلفية -والله أعلم- نسبة إلى السلف الذين هم أهل السنة والجماعة، ومنهج السلفي ليس منهجاً علمياً جافاً ونظرياً مجرداً، بل هو منهج علمي وعملي في نفس الوقت، فعندما أقول: سلفية فينبغي أن ينطلق ذهننا إلى ذلك النموذج الأعلى الذي طبق في حياة السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من الأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولا ينظر فقط إلى عقيدة السلف، ولكن ننظر -أيضاً- إلى عبادتهم وأخلاقهم وجهادهم وفهمهم للإسلام، واستقلال كلمة السلفية علماً على حزب أو جماعة محددة أو اتجاه معين هذا له سلبيات، وينبغي أن نحافظ على المنهج بعيداً عن أن تحتكره طائفة معينة؛ لأن هذا سيفقد المنهج كونه هو الميزان الذي ينبغي أن تحاكم به جميع الاتجاهات، وهو المنهج المعصوم، ولكن الذين ينتسبون إليه ليسوا معصومين، وحينئذٍ إذا احتكرت طائفة اسم السلفية أو اسم أهل السنة والجماعة -وهكذا احتكار مثل هذه الألقاب الشريفة- فإن ذلك يجعل المنهج خادماً لا مخدوماً، ولا يصلح أن يكون المنهج خادماً لأي تجمع، ولذلك ينبغي أن يبقى بعيداً عن الحزبيات، وحتى يبقى صالحاً لا بد من أن يحاكم الناس جميعاً به ويلزموا به، فالمنهج معصوم والناس غير معصومين، والمنهج حاكم والناس محكوم عليهم، والمنهج مخدوم والناس خادمون له، كما كان هذا شأنه، ولا ينبغي أن يسخر لخدمة حزب أو تجمع غير معصوم، وذلك لكي يبقى هو الميزان الأعلى الذي يوزن به الجميع بمن فيهم من ينتسبون إلى هذا المنهج.

ثم إنه يخشى من ذلك أن يغذي دائماً واقع راية حزبية، ويغذي الشعور الحزبي والعصبي بين المسلمين، وقد يتوهم بعض منهم بمرور الزمن أن السلفية أو أهل السنة جزء مبتور من كيان الأمة الإسلامية أو داخل الأمة.

وفي حالة تغنى حزب أو تجمع بهذا الاسم الشريف أو ذاك فإن أخطاء هذا التجمع أو أخطاء أفراده سوف تحمل للمنهج، وفي هذا إساءة إلى هذا المنهج، بالإضافة إلى أن التعبير عن هذا المنهج بصورة حزبية أو تكتل معين فيه تحجيم للدعوة السلفية، وحصر لها في إطار محدود، وحينئذٍ يكون في ذلك الحيلولة دون القاعدة العريضة من الأمة، ودون الانتساب إليه باعتبار أنها صفة حزبية لا أكثر، فليست صفة منهج، لكنها صفة حزب.

ونعود فنقول: إنه لا مانع من استعمال هذه الألقاب أو التسمي بها إذا كان استعمالها استعمالاً غير حزبي.

ومثله كل لقب شريف، كلقب المهاجرين والأنصار، فهما من أشرف الألقاب في الإسلام، بل مدح الله تبارك وتعالى أهلهما أعظم المدح في القرآن فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١٠٠].

ومدحهم بالمعنى فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:٨ - ٩]، فمدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أدنى حرج في أن يتسمى فلان مهاجرياً وفلان أنصارياً، لكن حدثت حادثة كسح فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، أي: ضربه على مؤخرته، فهو خطأ فردي وقع بين اثنين من المسلمين، فقال المهاجري لما ضرب: يا للمهاجرين! فدعا بدعوى الجاهلية، كما كان يتناصر الناس، فمن يظلم من قبيلة عبس يقول: يا لعبس.

وينادي بأعلى بصوته حتى يأتي إليه كل منتسب إلى قبيلته، بغض النظر عن كونه ظالماً أو مظلوماً، كما يحصل في الصراعات الطائفية عند بعض الناس الجهلة الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام، وتجري عصبيات جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيقول أحدهم: هذا من أهل بلدي، فأنا أنصره ظالماً أو مظلوماً.

وكذلك يقول الآخر.

فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فأراد كل منهما أن يستعمل اللقب الشريف استعمالاً حزبياً يفرق المسلمين ويضعف كيانهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة)، فسماها دعوى الجاهلية، فدل هذا الحديث على وجوب التخلي عن هذه الأسماء إذا صارت علماً على حزبية جاهلية مفرقة للأمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (ليس منا من شق الجيوب، أو لطم الخدود، أو دعا بدعوى الجاهلية)، وقال عليه الصلاة والسلام في أعظم مشهد شهده مع أصحابه رضي الله عنه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فهذه دعوى سماها في هذه الحال دعوى الجاهلية فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟!)، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، إذاً: يجب التخلي عن ذلك إذا صار الاسم علماً على حزب، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة)، ووصفها بالنتن والخبث، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى الأرض وقبل أن يولد جاء وصفه ومدحه في التوراة والإنجيل بصفات معينة ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:١٥٧]، فقوله: (دعوها فإنها منتنة) وصف لها بالنتن، ووصفها الخبث يدل على أنها من الخبائث التي حرمها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يستجيز أن يتسمى بشيء من هذه الألقاب ينبغي له أن لا يحدد الفكر لهذا التجمع، لكن ينبغي أن نعلن دائماً للناس أننا خادمون للفكر، وليس هو خادماً لنا، ونحن المحكومون بالمنهج، ولسنا حاكمين عليه.

ثم ينبغي أن نحذر تربية الناس على الولاء لغاية حزبية، إنما يكون الولاء للمنهج وللأصول، وأن تكون معاملة الناس والتمييز بينهم على حسب ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب ولائهم لأشخاص أو لطائفة معينة، فلا بد من إحياء هذه المعايير بين وقت وآخر، وإلا انزلقنا إلى ما انزلق فيه غيرنا ولن نعتبر بهم.

فهذا بالنسبة لمسألة تأطير المنهج، أو الفصل بين الفهم والسلوك، فمنهج أهل السنة فهم وسلوك، وليس هو فقط قضايا محصورة، إنما هو منهج للتعامل مع كل الظروف، والله تبارك وتعالى في سورة المعارج يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:١٩ - ٢٦]، فالتصديق لابد له من أن ينعكس في السلوك، فليست السلفية مجرد مفاهيم تصب في عقولنا وقلوبنا، وإنما هي مفاهيم تصب في أذهاننا وتستقر، ونعقد عليها قلوبنا، ثم تنعكس على سلوكنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:٢٦]، ثم أردف ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:٢٧]، فالجنة والنار موجودتان أبداً لا تفنيان، وهذا كلام متعلق بالفهم، لكن تستخلص منه وجود الجنة والنار، وينعكس هذا التصديق في سلوكك وامتثالك لقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:٢٧ - ٢٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>