للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج وعصرية المواجهة]

السؤال

استعمل في الآونة الأخيرة في بعض المصنفات تعبير (سلفية المنحى والمنهج وعصرية المواجهة)، على أساس أن هذا التعبير فيه رد على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فما هو تعليقكم على ذلك؟

الجواب

هذه العبارة تحتاج لنوع من التوضيح؛ لأن فيها إيهاماً، فلا نقول كما تقول هذه العبارة: سلفية المنهج عصرية المواجهة، لكن نقول: سلفية المنهج سلفية المواجهة.

ومثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، فهل حينما نتلو هذه الآية في هذا الزمان نقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة عصرية، أم أن فيها من العموم ما يقضي استفراغ الوسع في الأخذ بأسباب القوة؟! وهل يفهم من قولنا: سلفية المنهج سلفية المواجهة، أن الجهاد في سبيل الله في هذا الزمان يكون بالسيوف والرماح والنبال والخيول حتى نحترز فنقول: عصرية المواجهة؟! إن هذا الاحتراز لا نحتاج إليه، وإلا فسنحفظ الأمة الإسلامية في متحف من متاحف التاريخ! فسلفية المواجهة هي بطبيعتها لابد من أن تكون عصرية؛ لأن المنهج شامل لكل زمان ولكل مكان.

ثم إن مفهوم هذه الثنائية: (سلفية المنهج عصرية المواجهة)، فيه إدخال البعد الزمني في تعريف السلفية، وكأن هذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية الذي يعني الرجوع إلى الوراء، وأنها فهم متجه إلى الوراء، فعندما نقول: سلفية المنهج فإن هذا يعني فهماً متجهاً إلى الخلف، وعصرية المواجهة تعني فهماً متجهاً إلى الأمام.

ونحن نقول: المنهج السلفي لا هو متجه إلى الخلف ولا هو متجه إلى الأمام، بل هو متجه إلى أعلى، بمعنى أن السلفية ليست رجوعاً إلى الوراء، بل السلفية عملية ارتقاء وتسامٍ وصعود إلى مستوى السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

فإدخال العنصر الزمني أو البعد الزمني في تعريف المنهج على أساس أن له بعداً زمنياً يتجه إلى الوراء معناه أنه لا يصلح لمواجهة مشاكل العصر المتجه إلى الأمام، فكأن السلفية هي مجرد تراث ذكري لا يتضمن منهجاً للتعامل مع كل العصور.

وباختصار نستطيع أن نعبر عن الحقيقة في هذا الأمر أننا نريد بسلفية المنهج وسلفية المواجهة أن نعيش عصرنا، ونواجه مشكلاته بنفس الطريقة التي نتوقع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا سيسلكونها إذا عاشوا في عصرنا.

فالسلفية لا تتجه -كما ذكرنا- إلى الوراء ولا إلى الخلف، وإنما السلفية تتجه إلى أعلى، فهي عملية ارتقاء وارتفاع إلى مستوى السلف الصالح رضي الله عنهم في عقيدتهم ومفاهيمهم وسلوكهم وأخلاقهم والتزامهم وذلك من الثوابت التي لا تتفاوت بتفاوت العصور، وارتقاء إلى مستوى العصر الذي نعيشه، فلابد من أن يكون هناك مواجهة لتحديات هذا العصر، وارتفاع إلى مستوى العصر، أخذاً بالأسباب التي أمرنا الله بها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:٦٠].

فكل ما يحقق مصالح المسلمين ويوفر لهم عناصر القوة بكل أنواعها ينبغي أن نرتقي إليه، هذا هو جوهر السلفية للتعامل مع العصر، لا كما يحصل من بعض الناس ممن يستسلمون أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار في هذا الزمان، فلا يقوى أحدهم على مواجهة الواقع الذي يتحداه، لكنه يهرب منه بشتى الأحلام، فيرى أننا مسلمون وموحدون، وحينما نحارب الكفار يظن أنه ستنزل علينا معجزة من السماء، وتنزل معنا الملائكة تحارب حتى لو قاتلناهم بالرماح والسهام والسيوف، وسوف نغلبهم لأننا موحدون، كلا، فأنت بهذا الظن بالآية ولا احترمت الأسباب، حيث قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠].

وأما دفاع الله عن بيته الحرام بالطير الأبابيل فإنه كان في وقت إسلام، ولم ينزل قرآن، ولم تأت سنة، ولا قامت الأمة بعد.

فلا ينبغي أن نتوقع أن ينصر الله دينه بكلمة (كن)، وقد جرت سنة الله بأنه لا بد من الابتلاء، ولابد من الجهاد والبذل في سبيل هذا الدين، أما مجرد النوم والأماني فذلك يعني الهروب من مواجهة الحقيقة.

وهناك صورة أخرى من الهروب أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار، وهي أن بعض الناس يقول: الحل والمخرج من البعد العظيم أنه ستحصل حرب نووية تدمر فيها القوة الكافرة كلها، ويقضى على كل العالم، ويبقى المسلمون، وبعد ذلك هم الذين سيقومون من جديد بالرماح والسيوف ويجاهدون ويعيدون الإسلام من جديد.

وهذا هروب من مواجهة الحقيقة.

والحقيقة هي أن البعد الحضاري من المستطاع ملء الفجوة فيه لولا الخونة الذين أذلوا المسلمين لأعداء الله في الشرق والغرب، والذين أشركوا كل قوى الكفر في تحديد مصير المسلمين، ولم يشركوا المسلمين أنفسهم في تحديد هذا المصير، والآن يحدد مصيرنا اليهود والنصارى، ونحن لا حول لنا ولا قوة.

والمقصود أن هذا الأمر داخل في الأسباب المادية بشيء من الصبر والإصرار والهمة، وهناك قابلية لحصول نوع من التقدم بالنسبة للمسلمين يمكنهم بها مواجهة أعداء الله مهما بلغ بطشهم، لكن بالعلوم الحديثة، وبالأخذ بجميع أسباب القوة، وليس بالأماني التي نقول فيها: أماني إن تك حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا فلا بد من مواجهة المشكلة كما تواجه أي مشكلة أخرى، واستفراغ الوسع في الأسباب، ثم بعد ذلك يجيب الله المضطر إذا دعاه، بعد أن نأخذ بالأسباب لا بالأحلام وانتظار حدوث خوارق من السماء؛ لأن هذا لم يقع حتى مع أشرف خلق الله، نعم إن الله قادر على أن يقول للشيء: (كن) فيكون، فيصبح كل من في الأرض عباداً ربانيين ليس فيهم مشرك ولا مبتدع ولا ضال ولا فاسق، لكن ليس لهذا خلقت الخليقة، وهذا ينافي الحكمة التي خلق الله من أجلها الخلق ليبتليهم.

فالمنهج السلفي أو منهج أهل السنة والجماعة لا يعني ولا يشير إلى جيل ولا إلى أجيال مضت، ولكن تتسع دائرته لتشمل الحاضر والمستقبل.

ثم إنه لا يتعلق بالأزمان والعصور، ولكن يتعلق باتباع طريقة ثابتة واحدة حتى وإن قل أصحابها، فالتعبير بسلفية المنهج وعصرية المواجهة كأن فيه دمغاً للسلفية بأنها دعوة رجعية تنافي التقدم، ولذلك احتيج لهذه الثنائية فقيل سلفية المنهج وعصرية المواجهة، وهذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية، فالسلفية عند الغربيين عقدة من أسلافهم الصالحين، ويطلقون لفظ السلف عندهم على القرون الوسطى المظلمة، وعلى العهود المظلمة في أوروبا؛ لأن هؤلاء لهم حق في أن تصيبهم هذه العقدة من جراء ما عاناه أسلافهم من حرب للتقدم العلمي، والاكتشافات العلمية، وقهر الكنيسة وبطشها، والعقيدة الشركية التي قدمتها لهم، ومحاكم التفتيش، إلى غير ذلك مما حصل في أوروبا، فكان لهذا الفعل رد فعل ظهر في فصل الدين عن الحياة، والكفر بالدين، ورفع شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، فسلفهم السيئ الظالم المشرك الوثني يسمون عصوره العصور المظلمة، فأوروبا والغرب ما رأى أهلها النور أبداً بعد تلك القرون المظلمة، حتى في هذا الزمان ما زالوا يعيشون في بربرية هي أشد من العصور المظلمة التي يعيبونها.

فالشاهد أن موقفهم من السلفية هو انعكاس لمفهوم السلفية عندهم، فيقولون: السلفية رجوع إلى الوراء حتى انساق بعض الصحفيين وراء هذا المفهوم، فيعبرون عن الرجعي بكلمة سلفي، حتى إن بعض الصحفيين في إحدى المجلات الإسلامية -مع الأسف- لما تكلم عن السلفية الناصرية، يعني الذين يريدون أن يعودوا إلى فكر عبد الناصر، فيسمونهم السلفية الناصرية، يعني أن كل شيء يشير إلى الوراء فهو سلفي، كما يفعل زكي نجيب محمود في كثير من مقالاته، حيث يقول: كيف يكون الجيل الحالي أكثر سلفية من الجيل الماضي؟! ترى البنت تمشي مع أمها وهي سلفية وأمها متبرجة في ملابسها.

هذا معنى كلامه، فيقول: كيف نجد الثورة في الشباب في كل العالم تتجه إلى الأمام، ونجد بيننا من يدعوهم إلى السلفية.

فيرى أن السلفية رجوع إلى الوراء دائماً.

وأوروبا لما تخلت عن الدين وعما كان عليه أسلافها تقدمت، أما نحن فلا يوجد مبرر أبداً لأن نتأثر بهذا المفهوم عن السلفية وننساق خلفه؛ لأن أسلافنا هم خير أمة أخرجت للناس.

وأعلى أنموذج بشري دب على هذه الأرض كان في صورة هذه الجماعة أو العصابة المؤمنة التي أخرج الله بها العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فبالنسبة لنا الأمر عكسي، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الإسلام بهذا المنهج القويم.

ومما يزيد الاشتباه في هذا التعبير المهم -وهو سلفية المنهج وعصرية المواجهة- باقي السؤال، وهو أن هذا التعبير يشيع رداً على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فهذا مما يؤكد أن ما فهمناه في محله، وأن المقصود بهذه الثنائية الإشارة إلى البعد الزمني الذي أشرنا إليه، فما المقصود بالقضايا التاريخية، وإحياء مثل هذه القضايا التاريخية؟! إن كثيراً من الناس يشير بهذا التعبير، وكل من هب ودب يشنع على السلفيين بأنهم يحيون قضايا اندثرت، كما يفعل كثير من المشايخ، وهذا فيه جناية على منهج أهل السنة والجماعة، جناية مغطاة؛ إذ إن عادة أهل السنة وعلماء أهل السنة أنهم لا يبدءون بإثارة أي شيء لم يتكلم فيه السلف الأوائل، لكن كانوا كلما ظهرت بدعة وخرج المبتدعة بصورة من صور الانحراف يتصدون لهم، فيؤلفون الكتب ويناظرون ويناقشون الدلالات من منطلق قوله تبارك وتعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧]، ومن منطلق قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:٨].

فمن هذا المنطلق كانوا يضطرون إلى الرد على أهل البدع، وكانوا يدفعون دفعاً إلى التصدي لهؤلاء المبتدعة،

<<  <  ج: ص:  >  >>