للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم تحكيم القوانين الوضعية]

السؤال

هل تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر أم كفر دون كفر؟

الجواب

هذا السؤال بعبارة أخرى هو: هل تحكيم شريعة غير شريعة الله تبارك وتعالى يدخل في الاستحلال أم في الإصرار؟ ومن ثم فهل فاعله يكون كافراً كفراً أكبر، أم يكون كافراً كفراً دون كفر؟ إن هذه الشريعة هي الدستور الأعلى، والقانون الأوحد المهيمن، لكن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا عرض عليه قضية أو قضيتان أو عشر قضايا أو أغلب القضايا التي تعرض عليه، فحكم في قضايا عارضة جزئية بغير ما أنزل الله، لا بسبب التكذيب، ولا بسبب الرد والرفض، وإنما بسبب مجاملة لصديقه أو قريبه، أو رشوة أغري بها، أو محسوبية، أو هوى، فهذا كله كفر دون كفر، وهذا معصية، وليس كفراً يخرج من الملة، لكنه ينقص إيمانه؛ لأن هذا انحراف عارض في التطبيق وليس في المبدأ.

وبعبارة أخرى نقول: من رغب عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستبدلها بالقوانين الوضعية فهذا الاستبدال له صور عدة: فإما أنه يكون رافضاً لها بقلبه، وحينها لم يوجد قول القلب الذي هو الانقياد والإقرار والقبول، أو يكون كارهاً لها، أو معتقداً أن القوانين الوضعية أفضل من الأحكام الإلهية، باعتبار أنها أحكام رجعية جامدة لا تناسب العصر، كما يقع من العلمانيين وخصوم الإسلام، أو يفعل ذلك عناداً ومكابرة، فيؤمن بأنه حكم الله لكن يعاند ويكابر ولا يقبله ولا ينقاد له، فهذا كافر خارج عن ملة الإسلام، ولو كان مصدقاً بها مقراًَ بأنها شريعة الله عز وجل، وكفره ككفر إبليس الذي ما شك في أن الأمر بالسجود صادر عن الله تبارك وتعالى، لكنه رد حكم الله ولم يلتزمه، ففي حق مثل هذا نستدل بقوله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، فالمسألة هنا ليست مسألة خطأ في التطبيق أو خطأ عارض، بل هي مسألة مبدأ، فحين يحصل التخلي عن أصل تحكيم الشريعة وإبطال تحكيمها في أغلب شئون الحياة والدولة، وتنكيس راية الشريعة تماماً، ثم استبدال راية الشريعة براية القوانين الوضعية الجاهلية لتصبح هي بدل الشريعة الإسلامية مع أن الشريعة هي المظلة ذات السيادة، وهي المهيمنة على المجتمع، فإن ذلك لا يتضمن عدم الحكم بما أنزل الله بتعطيله وإبطاله فحسب، بل يتضمن جريمة أخرى هي الإباحة العامة للحكم بغير ما أنزل الله.

فما بالك لو انضم إليه الإلزام القسري، أي: إلزام الأمة جميعها بالتحاكم إلى هذه القوانين الجاهلية؟! وليس الأمر إلى هذا الحد، بل يفتن كل من تمرد على هذه القوانين أو حاول تغييرها حتى ولو كان قاضياً.

ما أكثر ما يتردد في ساحات المحاكم الوضعية من عبارات تقشعر منها الجلود وتشمئز لبشاعتها النفوس لما تتضمنه من رد الدفاع الشرعي، حينما يدافع المدافع بأدلة الشرع الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل القاضي الوضعي الحكم الشرعي والدفاع الشرعي، لا لشيء إلا لأنه يخالف القوانين الوضعية.

فيرد حكم رجم الزاني، أو جلد الشارب، أو قطع يد السارق؛ لأنه يخالف القوانين، وهذا فصل بين الخلق والأمر، وقد يكون هذا الشخص مؤمناً بأن هذا حكم الله، لكنه لا ينقاد إليه قلبياً، ويجعل عدم تطبيق الشرعية مبدأ عاماً، فيلزم كل الناس بتعطيل الشريعة أولاً، ثم باستباحة الحكم بغير ما أنزل الله إباحة عامة يلزم بها سائر الناس ويمتحن ويفتن من خالفها أو تمرد عليها، فالله عز وجل له الخلق والأمر، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فالذي يخلق هو الذي يأمر ويحكم، فكما أنه لا يخلق إلا الله، كذلك لا يأمر ولا يشرع إلا الله عز وجل.

ونشير بهذه المناسبة إلى عبارة (الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع)، فهذه العبارة تنافي العقيدة الإسلامية تماماً؛ إذ إنها تساوي القول بأن الله عز وجل هو الخالق الرئيس لهذا الكون.

فهل يقبل أن الله هو الخالق الرئيس؟! إن الله تعالى كما له الخلق له -أيضاً- الأمر، فكما أنه لا يصح أن تقول: الله هو الخالق الرئيس، كذلك لا يصح أن تقول: شريعة الله هي الشريعة الرئيسة للقوانين.

وقد حصل أن جنكيز خان ملك التتار استبدل أحكام القرآن وأحكام الشريعة بكتابه (الياسق) أو (اليافا)، وجعله خليطاً من الشريعة الإسلامية مع بعض القوانين الأخرى من الملل الأخرى، ووقفت الأمة منه موقفاً عظيماً خطيراً لإبائه ورده ورفضه الشريعة الإسلامية.

فأرجو أن يكون بهذا اتضح الفرق بين الإصرار وبين الاستحلال، وبعض العلماء يقولون: الحكم بالكفر الأكبر نتيجة الاستحلال له صورتان: تكذيب الخبر، أو رد الحكم وإبطاله وعدم الانقياد له والتزامه، وفي الحالة الثانية قالوا: هو كفر، لكن لا يحكم على قائله أو فاعله بالكفر حتى يتثبت من وجود أفعال أو شروط معينة، وانتفاء موانع تمنع من الحكم بالكفر على الشخص، لكن يقال: من فعل كذا فهو كافر.

ولا يجزم بأن فلاناً بعينه كافر حتى نتأكد من زوال العوارض الأهلية من إكراه أو جهل أو تأويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>