للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قاعدة أهل السنة والجماعة في تكفير المعين]

قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري يعني: رجع بها أحدهما، لماذا؟ لأن هذا المسلم إن كان فعل فعلاً من أفعال الكفر مثل سب الرسول، أو الدين، أو إهانة المصحف، فإذا قال له: يا كافر؛ فإن كان كما قال وكان صادقاً في الحكم عليه ببينة فهو فعلاً كافر، لكن هذا المسلم إذا لم يكن مستحقاً بأن يوصف بالكفر فإن هذا الشخص الذي وصفه بالكفر يعود عليه الحكم بالكفر؛ ولذلك دائماً نقول: إن القوم الذين يعتقدون أنه لا يوجد كفر دون كفر، وأن كل الكفر يخرج من الملة، نقول: أنتم أولى بالتورع عن إطلاق الحكم بالكفر على المسلمين؛ لأننا أهل السنة والجماعة إذا اعتقدنا أن الشخص إذا حكم على آخر بالكفر، وقال له: يا كافر! ظلماً وعدوناً؛ فإنه يأثم بذلك، ويسمى كافراً، ويقال: إنه أتى بشعبة من شعب الكفر العملي، وهي شعبة تنقص إيمانه، ولكن لا يخرج بها من الملة، أما هم فإذا أخطئوا في الحكم على شخص بالكفر، وكان هذا الشخص غير كافر في الحقيقة؛ فبنص الحديث سيعود حكم الكفر عليه هو، فيصبح كافراً، وهو لا يعتقد أن هناك كفراً دون كفر، وكل الكفر عنده يخرج من الملة، فإذاً هذا يستلزم فيه مزيداً من الاحتياط في حقه هو؛ لأنه إذا وصف أحداً بالكفر واستحق الكفر إذا أخطأ في الحكم على أخيه بالكفر، فسيكون كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة في اعتقاده لا كما هو الأمر في الحقيقة؛ فلذلك يجب الحذر في حقه من إطلاق الكفر أكثر من غيره.

وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به، قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:٨٤]، (تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ) المقصود: إخوانكم؛ لأن من شدة الرابطة بين المؤمنين وأصحاب العقيدة الواحدة أن الله تبارك وتعالى يعبر بالأنفس عن الإخوان في الله، فهذا دليل من هذه الأدلة: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ) يعني: لا تخرجون إخوانكم في الدين، ومثل هذا قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:١١] يعني: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] يعني: على إخوانكم على بعض التفاسير، وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:١٢] يعني: بإخوانهم.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٨٤ - ٨٥] يعني: إخوانكم، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٨٥].

فأخبر سبحانه وتعالى أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم بأنه لا يقتل بعضهم بعضاً، وشهدوا بذلك، ولا يخرجوا بعضهم بعضاً من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخر، وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه، فهذا الإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.

<<  <  ج: ص:  >  >>