للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الظلم على قاعدة أهل السنة]

قال سفيان بن عيينة: عن هشام بن جحير عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] قال: ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه، قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة.

وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة.

وقال وكيع: عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً، ويسمى الجاحد ما أنزله على رسوله أيضاً كافراً، وليس الكافران على حد سواء، ويسمى الكافر ظالماً، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:٢٥٤]، فسمى الكافرين ظالمين، وسمى المتعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً، فقال تبارك وتعالى بعدما أشار إلى بعض أحكام الطلاق: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:١]؛ فوصفه بالظلم، والكافرون أيضاً وصفهم بالظلم كما قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:٢٥٤]، لكن هل هذا الظلم مثل هذا الظلم؟ لا، فتماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، بل قال يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، فهل قوله: (من الظالمين) يعني: من الكافرين؟ كلا.

لكن هذا ظلم دون ظلم بل هي في حق الأنبياء من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه معاصي في حق الأنبياء بالنسبة إلى علو مقامهم، لكنها في حق غيرهم من البشر لا تكون معاصي على الإطلاق، إنما يكون النبي يفعل فعلاً معيناً وهو يظن أنه يرضي الله، ويتضح بعد ذلك أنه لم يوافق مرضاة الله تبارك وتعالى، أو يفعل فعلاً كان الأولى ألا يفعله لكنه لا يأثم بذلك، وقد عقد الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه (الفصل) فصلاً طويلاً تتبع فيه جميع النصوص التي فيها ما يوهم نسبة المعاصي إلى الأنبياء، وبين تنزيههم عن المعاصي.

وهؤلاء المبتدعة أدى بهم الجهل الفاحش إلى إنكار أن يكون هناك ظلم دون ظلم، وقالوا: إن كل ظلم هو كفر مخرج من الملة، فكان بعض الإخوة حينما يناقشونهم يقول: سنأتي لهم بأدلة تفحمهم تماماً ويسكتون على المعارضة، فقال: قال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، فقالوا: يونس أيضاً كان كافراً، والعياذ بالله! وقالوا: آدم كفر ثم دخل في الإسلام من جديد: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]، ففسروا الظلم هنا على أنه ظلم أكبر، وقالوا: إن الأنبياء كفروا والعياذ بالله، سبحان الله! الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الكفر، وعن كبائر الذنوب، بل وعن صغائرها على القول الراجح، فقول آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، هذا ظلم دون الظلم الذي جاء في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:٢٥٤].

وقول موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:١٦]، وموسى عليه السلام ما تعمد قتل ذلك الرجل، ولكنه كان شديد القوة عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وما تعمد أن يقتله؛ لذا قال هنا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:١٦]، فوصف نفسه بالظلم، فهل هذا مثل الظلم في قوله تبارك وتعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)؟ ليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.

وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]، هل الظلم هنا ظلم دون ظلم أم ظلم أكبر؟ ظلم أكبر، والدليل قوله تبارك وتعالى حاكياً عن لقمان: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، فهذا ظلم أكبر، وشرك يخرج من الملة تماماً، كما في قوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

<<  <  ج: ص:  >  >>