للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[آيات وأحاديث في الرجاء]

يقول عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢] إلى آخر الآيات، فهنا انظر إلى قوله: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم: ((الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ثم ذكر أقسام هؤلاء المصطفين الأخيار فقال: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)) بالمعاصي، فدل على أن العاصي لا يخرج من الإسلام، ولا يخرج من الإيمان بمجرد المعصية، بدليل أنه ذكرهم ضمن من سيرحمهم الله تبارك وتعالى: ((وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي: اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:٣٢ - ٣٣]، فبعض العلماء قال: إن هذه أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي، والإنسان إذا أشرف على اليأس أو القنوط أو خروج روحه؛ فإنه يتذكر نصوص الرجاء أو يُذكر بها حتى يلقى الله وهو حسن الظن به، أو إذا كان في حالة غير حالة الاحتضار، وغلب عليه الخوف بحيث خشي أن يئول أمره إلى القنوط من رحمة الله عز وجل، فعليه أن يذكر نفسه بنصوص الرجاء هذه، فبعض العلماء يقولون: حق لهذه الواو التي في قوله: ((يَدْخُلُونَهَا))، والتي تعود على الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات حق لها أن تكتب بماء العين؛ ولذلك عد بعض العلماء هذه الآية أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي.

كذلك من الآيات التي يقال عنها: إنها أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

وكذا قوله تعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، فبين أنك إما أن تؤاخذ بالذنوب في الدنيا، وإما أن الله يعفو عنك، وما تبقى من ذلك سيعفو الله تبارك وتعالى عنه.

وكذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، لكن لما قيل لبعض الناس: إن هذه أرجى آية في القرآن، قالوا: لكن هذه فيها المشيئة في قوله: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، لكن أيضاً هي من آيات الرجاء العظيمة؛ لأن الإنسان إذا كان على التوحيد ومات عليه، فهو داخل في مشيئة الله، والله أرحم الراحمين، ويرجى له ذلك.

وكذا أطول آية في القرآن، وهي آية الدين؛ لأن الله عز وجل من تعظيمه لحق المؤمن حتى في الدراهم أو الدنانير المعدودة أنزل أطول آية في القرآن لأجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، وكما تعلمون فيها الكثير من الأحكام الشرعية لحفظ حق المسلم ومصلحته في أشياء يسيرة، فيرجى من الله عز وجل في الآخرة أن تكون رحمته للمؤمن، وتقديره الخير والسعادة له أعظم وأعظم من ذلك، فإذا كان هذا في مجرد دراهم قليلة في الدنيا أنزل أطول آية حتى يضمن لك هذه المصلحة، فكيف تكون رحمته في الآخرة؟ فنؤمل خيراً من ذلك.

ومثل هذا أيضاً: بعض الآثار التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن أحداً من أمته يبقى في النار، وقد ساقوا في ذلك أشعاراً منها: ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطى فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله! ترضى وفينا من يعذب أو يساء المقصود: أن النبي عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، فكما أن الله عز وجل في جانب الرحمة يعفو عمن يستحق ذلك، ويعلمه الله أهلاً لذلك، فكذلك من كماله أن يكون عادلاً في من عصى أمره، وعاند شريعته، وخرج عن طاعته، فمن عصى الله والرسول يحب أن يعاقب، لكن على كل حال قد يرشح هذا الأمر حديث قدسي في صحيح مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا دعاء إبراهيم لقومه، ودعاء عيسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا رب! أمتي أمتي، وبكى)، أي: أنه لما وجد إبرهيم دعا لقومه وعيسى دعا، قال: (يا رب! أمتي أمتي)، فأرسل الله عز وجل إليه ملكاً فقال: (قل له: يا محمد! ما يبكيك؟ فقال: يا رب أمتي أمتي)، أشفق عليه الصلاة والسلام على أمته، فأوحى الله إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام: (قل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك)، وهذا أيضاً مما يدخل ضمناً في معنى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥]، يعني: يرضيك بما يشرح صدرك بالنسبة لمصير أمتك في الآخرة.

وآيات الرجاء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠]، فالشاهد: أن هؤلاء المجرمين الذين عادوا أولياء الله وأحرقوهم وعذبوهم هذا التعذيب، واستحقوا بذلك أن يكونوا أشد الناس عذاباً في الآخرة؛ لأن من عذب الناس في الدنيا يعذبه الله عذاباً أشد من ذلك في الآخرة، ومع ذلك اشترط عدم التوبة في حصول العقوبة لهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠]، فأي رحمة أعظم من ذلك؟! كذلك في سورة الفرقان بعد أن ذكر الله عز وجل جملة من كبائر الذنوب قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٧٠] إلى آخر الآية.

كذلك قال الله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢]، الشاهد في نفس هذه الآية، وهو قوله: {وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:٢٢]، على أن هذه الآية من آيات الرجاء في القرآن، وقد نزلت في مسطح لما قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد وصفه بأنه من المهاجرين في سبيل الله رغم أنه فعل هذه الكبيرة وهي قذف أم المؤمنين، هذا هو الشاهد؛ لأنه دل على أن هذه المعصية الكبيرة التي أنزل الله فيها ما أنزل في سورة النور تنزيهاً لأم المؤمنين، وتبرئة لها رضي الله عنها، فمثل هذا الذنب العظيم الذي فعله مسطح لو كان يحبط ما سبق من أعماله الصالحة لما استقر له وثبت وصف الهجرة في سبيل الله، لكن ثبوت هذا الوصف لـ مسطح مع ارتكاب هذه الكبيرة دل على أن معصيته لا تحبط ما سبق من أعماله الصالحة، ففي هذا بشرى للمؤمن أن المعصية وإن كانت تنقص إيمانه لكنها لا تذهبه بالكلية، ولا تحبط أعماله السابقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>