للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفاوت أهل الطاعات]

على أي الأحوال هذا استطراد ربما نكون خرجنا به عن الموضوع، ففي هذه الآية وهي قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢]، هل هؤلاء المؤمنون المصطفون يستوون في إيمانهم؟

الجواب

كلا؛ فهذا التقسيم يدل على تفاوت إيمانهم، فقسم الناجين منهم إلى مقتصدين، وهم الأبرار أصحاب اليمين الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه، وإلى سابق بالخيرات: وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وتركوا ما لا بأس به خوفاً مما به بأس، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، إلى آخر معنى الحديث السابق، فبه يسمعون، وبه يبصرون، وبه يبطشون، وبه يمشون، وبه ينطقون، وبه يعدلون.

وأما الظالم لنفسه ففي المراد به عن السلف الصالح قولان: القول الأول: أن المراد به الكافر، فيكون كقول الله عز وجل في تقسيم الناس في سورة الواقعة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:٧ - ١١]، وقسمهم عند الاحتضار أيضاً كذلك، فقال عز وجل: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:٨٨ - ٩٤] فإن تفاضل أهل الإيمان في تقسيم هذه السورة إنما هو على درجتين: سابقين مقربين وأبرار، وهؤلاء هم أصحاب اليمين، وأما أصحاب الشمال الذين هم المكذبون الضالون فليسوا من أهل الإسلام باتفاق، وإنما الخلاف في الظالم نفسه في آية فاطر، هل هو الكافر، أم غير ذلك؟ فالقول الأول: أن الظالم نفسه كالكافر، فيكون التقسيم على هذا التفسير موافقاً لما في الآيات التي ذكرناها.

القول الثاني: أن المراد به عصاة الموحدين؛ فإنهم ظالمون لأنفسهم، ولكن ظلم دون ظلم، لا يخرجهم من الدين، ولا يخلدهم في النار، فعلى هذا يكون هناك قسم ثالث لتفاضل أهل الإيمان، ورجح هذا القول ابن القيم رحمه الله تعالى، فإذا كان أتباع الرسل بينهم تفاوت على حسب درجات إيمانهم: ظالم لنفسه، مقتصد، سابق بالخيرات، فكيف بتفاوت ما بينهم وبين رسلهم؟ لا شك أن التفاوت بعيد جداً، بل الرسل أنفسهم فيما بينهم متفاضلون، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:٢٥٣].

<<  <  ج: ص:  >  >>