للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لا يقال فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام، فالإيمان المتعدّي بالباء يجري على طريق اللغة، وإذا أطلق غير متعدّ فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من التصديق إلى معنى آخر. ثم اختلفوا فيه على وجوه. الأول أنّ الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال أو الأفعال وهذا قول واصل بن عطاء «١» وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار. والثاني أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم. والثالث أنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظّام وأصحابه، ومن قال شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر.

وأما الخوارج فقد اتفقوا على أنّ الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر ونهي عنه صغيرا كان أو كبيرا.

وقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج، ويقرب من مذهبهما مذهب السلف وأهل الأثر أنّ الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء: التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، إلّا أنّ بين هذه المذاهب فرقا، وهو أن من ترك شيئا من الطاعات فعلا كان أو قولا خرج من الإيمان عند المعتزلة ولم يدخل في الكفر، بل وقع في مرتبة بينهما يسمّونها منزلة بين المنزلتين. وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كلّ واحد من الطاعات كفر عندهم. وعند السلف لم يخرج من الإيمان لبقاء أصل الإيمان الذي هو التصديق بالجنان. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي «٢»: هذه أول مسألة نشأت في الاعتزال. ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل، فالمخلّ بالأول وحده منافق، وبالثاني وحده كافر، وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنّة.

قال الإمام: هذه في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه، فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة. قلت الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله عليه السلام «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام وأن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة» «٣» الحديث. وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل وهو المراد «٤» بالإيمان المنفي في قوله عليه السلام «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» «٥» الحديث، وكذا


(١) هو واصل بن عطاء الغزّال، أبو حذيفة. ولد بالمدينة عام ٨٠ هـ/ ٧٠٠ م. وتوفي بالبصرة عام ١٣١ هـ/ ٧٤٨ م. رأس المعتزلة، بليغ متكلم. له عدة تصانيف. الأعلام ٨/ ١٠٨، المقريزي ٢/ ٣٤٥، وفيات الأعيان ٢/ ١٧٠، مروج الذهب ٢/ ٢٩٨، فوات الوفيات ٢/ ٣١٧، تاريخ الاسلام ٥/ ٣١١، مرآة الجنان ١/ ٢٧٤ النجوم الزاهرة ١/ ٣١٣، لسان الميزان ٦/ ٢١٤، شذرات الذهب ١/ ١٨٢.
(٢) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، أبو إسحاق. ولد في فيروزآباد بفارس عام ٣٩٣ هـ/ ١٠٠٣ م.
ومات ببغداد عام ٤٧٦ هـ/ ١٠٨٣ م. عالم، ناظر العلماء واشتهر بالحجة والجدل ونبغ في علوم الشريعة. له تصانيف كثيرة. الأعلام ١/ ٥١، طبقات السبكي ٣/ ٨٨، وفيات الأعيان ١/ ٤، اللباب ٢/ ٢٣٢.
(٣) أخرجه مسلم في الصحيح، ١/ ٣٩، عن أبي هريرة، كتاب الإيمان (١)، باب بيان الأيمان والإسلام (١)، حديث ٥/ ٩، من حديث طويل.
(٤) المقصود (م، ع).
(٥) أخرجه البخاري في الصحيح، ٨/ ٢٩٣، عن أبي هريرة، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب إثم الزناة، حديث رقم ٩/ ٦٨١٠، بلفظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروضة».