للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشبهة السابعة والأربعون:

إطعام جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - لأهل الخندق:

عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَمَصًا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ لَهَا: «هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا»، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ.

فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالَتْ: «لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَنْ مَعَهُ».

فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا؛ فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ»، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ».

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ»، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: «بِكَ وَبِكَ».

فَقُلْتُ: «قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي»، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا»، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» (١). (رواه البخاري ومسلم).


(١) (خَمَصًا) أَيْ ضَامِر الْبَطْن مِنْ الْجُوع. (فَانْكَفَأْت إِلَى اِمْرَأَتِي) أَيْ اِنْقَلَبْت وَرَجَعْت. (فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا) وِعَاء مِنْ جِلْد. (وَلَنَا بُهَيْمَة دَاجِن) هِيَ بِضَمِّ الْبَاء تَصْغِير (بَهِيمَة) وَهِيَ الصَّغِيرَة مِنْ أَوْلَاد الضَّأْن، والدَّاجِن مَا أَلِف الْبُيُوت.
(فَجِئْته فَسَارَرْته فَقُلْت: يَا رَسُول اللهِ) فِيهِ: جَوَاز الْمُسَارَرَة بِالْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون الثَّالِث. (السُّور) هُوَ الطَّعَام الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الطَّعَام مُطْلَقًا. (فَحَيَّ هَلًا) بِتَنْوِينِ (هَلًا) وَقِيلَ: بِلَا تَنْوِين عَلَى وَزْن عَلَا وَيُقَال: (حَيّ هَلْ) فَمَعْنَاهُ: عَلَيْك بِكَذَا أَوْ اُدْعُ بِكَذَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْجِلْ بِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: هَاتِ وَعَجِّلْ بِهِ.
(حَتَّى جِئْت اِمْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِك وَبِك) أَيْ ذَمَّتْهُ وَدَعَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بِك تَلْحَق الْفَضِيحَة، وَبِك يَتَعَلَّق الذَّمّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: جَرَى هَذَا بِرَأْيِك وَسُوء نَظَرَك وَتَسَبُّبك.
قَوْله: (قَدْ فَعَلْت الَّذِي قُلْت لِي) مَعْنَاهُ: أَنَّى أَخْبَرْت النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِمَا عِنْدنَا فَهُوَ أَعْلَم بِالْمَصْلَحَةِ.
قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتكُمْ) أَيْ اِغْرِفِي، وَالْقَدَح: الْمِغْرَفَة.
(تَرْكُوه وَانْحَرَفُوا) أَيْ شَبِعُوا وَانْصَرَفُوا. (تَغِطّ) أَيْ تَغْلِي، وَيُسْمَع غَلَيَانهَا.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث عَلَمَيْنِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة: أَحَدهمَا: تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل، وَالثَّانِي: عِلْمه - صلى الله عليه وآله وسلم - بِأَنَّ هَذَا الطَّعَام الْقَلِيل الَّذِي يَكْفِي فِي الْعَادَة خَمْسَة أَنْفُس أَوْ نَحْوهمْ سَيَكْثُرُ فَيَكْفِي أَلْفًا وَزِيَادَة، فَدَعَا لَهُ أَلْفًا قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ صَاع شَعِير وَبُهَيْمَة. (باختصار من شرح الإمام النووي لهذا الحديث من صحيح مسلم).

<<  <  ج: ص:  >  >>