للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بلال بن رباح رضي الله عنه وتلا قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله) ... الآية، قال هذه عامة في القرى كلها ثم قال: (للفقراء المهاجرين) ... الآية، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: (والذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله: إنك غفور رحيم) فكانت هذه عامة للمقاتلين وغيرهم إلى يوم القيامة فيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا بالرأي, فقال عبدالرحمن بن عوف: فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد يكون كثير نبل بل عسى أن يكون كلاً من المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وغيره من أهل الشام والعراق, فأكثروا على عمر فقالوا أتنفق ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولا أبناء القوم ولا أبناء أبنائهم ولم يحضروا, فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي, قالوا فاستشر فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا, فأما عبدالرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رأي عمر فصرفهم, وأرسل إلى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم وعرض رأيه وحجته وقال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملته من أموركم فإني واحد منكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق فوالله لأن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق, قالوا نسمع يا أمير المؤمنين، قال: إني أعوذ بالله أن أركب ظالماً لأن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرض بعلوجها وأضع عليهم الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم, أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها, أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بد من شحنها بالجند وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمتم الأراضي والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما ما قلت ورأيت إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رحل أهل الكفر إلى مدنهم. فقال قد بان لي الأمر فمن رجل له جزالة عقل يضع الأرض مواضعها، ويضع العلوج ما يحتملون فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم من ذلك فإن له بصراً وعقلاً وتجربة فأسرع إليه عمر فولاه ساحات أرض السواد. (١)

لقد أوردنا هذا النموذج من الشورى في عصر الصحابة لندلك على أن الشورى لا غنى عنها في شتى مناحي الحياة, وأنه قد يحصل الخلاف حتى في فهم النصوص وأن التزام الجميع بالمنهج الرباني لا يتأتى دون التشاور وأن ولي الأمر والقاضي المجتهد لا بد له من إعمال النظر. ويقول الدكتور عدنان النحوي في هذه الممارسة (وهكذا في الموقف الدقيق دارت الشورى بأوسع ميادينها وأزكى ممارساتها وأطهر نتائجها، ولقد مارس المسلمون في هذه القضية إيمانهم كله وعلمهم كله ولم يمارسوا جزئية واحدة فحسب بل مارسوا إيمانهم وعملهم على تناسق وتكامل على حب وصفاء على قوة ومضاء، وبقوا صفاً وأمة واحدة وحزباً واحداً فرضي الله عنهم أجمعين. (٢)

وقد روى وكيع عن عمر بن عبدالعزيز قولاً جاء فيه (إن القاضي ينبغي أن يكون فيه خمس خصال فإن نقصت واحدة كانت وصمة, العلم بما قبله، والحكم عند الخصم، والنزاهة عند المطمع، والاحتمال للأئمة، ومشاورة ذوي العلم) (٣) وفي وكيع أيضاً عن المغيرة بن محمد بن عبدالعزيز (لا ينبغي أن يكون الرجل قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال


(١) - انظر الخراج لأبي يوسف - ص ١٤. وأخبار عمر للشيخ علي الطنطاوي ص ٨٧ - ٨٨.
(٢) - الشورى وممارستها الإيمانية للدكتور عدنان النحوي - ص ١٤٧.
(٣) - أخبار القضاة لوكيع ج ١ - ص ١٣٨.

<<  <   >  >>