للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المتأخرة التي اغتصبت فيها أمور المسلمين واستبدَ بها المستبدون حتى لم تبق ضرورة من ضرورات الحياة إلا تعرضت للاعتداء والانتهاك, ولو أن الكتَّاب المعاصرين قيدوا هذا الحكم وهو كون الشورى ملزمة بظروف المسلمين المعاصرة وما أشبهها حيث لا يكون معظم ولاة الأمور متصفين بالصفات التي كان يتصف بها ولاة الأمور في السابق؛ لو أنهم قيدوا الحكم بذلك لما كان للإعتراض, عليهم وجه, ولكنهم أطلقوا ذلك وجعلوه قاعدة فاقتضى التحقيق بيان الحق فيه ثم نقل ما ذكره عبد الكريم زيدان في كتابه مجموعة بحوث فقهية, وهو من الذين يرون أن نتيجة الشورى ليست ملزمة لولي الأمر في الأصل حيث يقول " الرأي الثالث هو الأخذ برأي رئيس الدولة (مطلقاً) قوي سديد من الناحية النظرية ولكن لضرورات الواقع وتغير النفوس ورقة الدين وضعف الإيمان وندرة الأكفاء الملهمين؛ كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني وهو الأخذ برأي الأكثرية فنلزم الرئيس برأي الأكثرية (١). أما الدكتور وهبه الزحيلي فإنه في كتابه حق الحرية في العالم عند حديثه عن مدى الالتزام بالشورى أو هل الشورى ملزمة قد أورد جملاً مفيدة نختار منها قوله " هناك رأيان للعلماء, يرى جماعة أن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحرب وعند لقاء العدو وغير ذلك من التنظيمات الإدارية والإجرائية مندوبة أو مستحبة واختيارية تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار وتألفاً على الدين لقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) (٢) والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين, ولأن أبا بكر رضي الله عنه حينما استشار الناس في محاربة المرتدين لم ير غالبية المسلمين منهم عمر رضي الله عنه قتالهم وأخذ أبو بكر رضي الله عنه برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه, وذهب آخرون إلى أن الشورى واجبة, وهو الراجح المتفق مع الكرامة الإنسانية والحرية والمشاركة السياسية في مصائر الأمة فيكون الحاكم ملزم, برأي أغلب المستشارين من أهل الحل والعقد عملاً بالأوامر القرآنية بالشورى, ويصبح الأمر بها عديم الأثر إذا لم يلتزم الحاكم بنتيجتها وقد عمل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الراشدين من بعده, أما الأمر القرآني بالشورى فهو قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والأصل في الأمر الوجوب ولأن القرآن الكريم وضعها بجانب ركنين مهمين هما الصلاة والزكاة في آية وصف المؤمنين (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (٣).

وسئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم في آية (فإذا عزمت) فقال: (هو مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم). قال الشيخ محمد الغزالي أخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة, فما جدواها إذاً وما غناها في تقويم اعوجاج الفرد إذا كان من حقه أن لا يتقيد بها وأين في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأي مستشاريه ومضى في طريقه وحده, وبما استشهد بعضهم بموقف أبي بكر رضي الله عنه في حرب الردة واعتراض الصحابة له في قتاله من نطق بالشهادتين ومن بينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإصرار أبي بكر رضي الله عنه على موقفه ويمينه التي أقسمها على قتالهم إلى النهاية وهذا استشهاد يرد في غير موضعه، فقصة أبي بكر رضي الله عنه مع المرتدين ومانعي الزكاة لا تعني إلا أنه عرف الحق قبل عمر رضي الله عنه ثم ما لبث أن أقنع به صاحبه فأيد وجهة نظره واتفقا جميعاً على تنفيذها, وخطأ عمر في موقفه ابتداءً مع المرتدين كخطئه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين أنكر موته وتوعد من يقول به ثم ثاب إلى الحقيقة التي قررها أبو بكر رضي الله عنه في يقين وتؤدة (٤). ويقول الدكتور الزحيلي أن الاختلاف في الرأي أثناء التشاور أمر طبيعي لا بد منه, والمهم أن يتوصل أهل الشورى في النهاية إلى رأي معين ومخالفة عمر رضي الله عنه في هذا لا تضر لأنها في أثناء النقاش وكل نقاش تتضارب فيه الآراء ثم


(١) - انظر تفصيل أوسع (الشورى) لعبد الله أحمد قادري من ١٠١ - ١٠٥ - ومجموعة بحوث فقهية لعبد الكريم زيدان ص ١٠٦ - ١٠٨
(٢) - الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.
(٣) - الآية ٣٨ من سورة الشورى.
(٤) - الإسلام والاستبداد السياسي ص ٥٤.

<<  <   >  >>