للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سارعوا إلى وضعها وكتبوا عليها تلك الكلمة تصل إلى مقصدها قبل غيرها على أن البريد والقدر لا يعطيان على الخاطر ولا يعملان لرضى الناس.

ولكن من يتطالّ إلى نيل كل شيء لا ينال شيء وماذا تجديه السرعة الفائقة للعادة التي تؤذيه وتضعف قيمة كل ما ينوي القيام به. وبعد فلا يفوتنا أن قاطرة بخارية إذا تركت على سرعتها الفائقة تنتهي بها الحال أن لا تمس قضبان الحديد ولا تكاد تقف على الأرض كأنها في الخلاء وهكذا الحال في الأعمال فإن الرجل بكثرة إسراعه في الذهاب يطير ويعثر بالحوادث ويقع فيها وهكذا شأنه في أوجاعه وأفراحه وكل ما يناله. فهو لا يحفل بتأثراته وشعوره ولا يتوسع فيهما بل يمسها مساً خفيفاً لا يأخذ منها ولا يترك ولا يستفيد الدرس النافع الذي يفيده عبرة وحكمة فهو كالريشة بل كالقذيفة الطائشة العمياء تطير على العماية في الفضاء الذي يتقاذفها ويخمد أنفاسها في جميع المحطات التي تقف فيها من الحب والبغض والشر والخير فلا يميز بينها ويخلط فيها إلى أن يناديه داعي الأجل المحتوم فلا يجعل له من الوقت متسعاً يتنفس فيه.

ولا يقولن قائل أني أغالي فيما أقول فالحوادث تؤيد قولي: نحن نأكل سراعاً فلا نهضم. قال مونتين أن الحياة تمضغنا ونحن لا نمضغها بل نبلعها فنختنق أحياناً. نشرب سراعاً ونرسل الطعام إرسالاً إلى معدنا وما الغذاء إلا عمل مقدس نأتيه ونحن جلوس على طرف المائدة في أغلب الأوقات لا نفتح فانا فنتكلم ولا نقول كلماً طيباً ولاسيما في البيوت فإنا نتغدى ونتعشى بأسرع ما يمكن كأننا في مقصف محطة سكة حديدية والمنادي ينادي لم يبق إلا دقيقتان لسير القطار فنأكل ونحن سكون لا نتكلم وقد استغرقتنا الصفحة قبل أن نستغرقها نفكر فيما يهمنا ونحلم فيه وقد عبست جبهتنا وسدت معدتنا وألقينا الطرف إلى أبعد مما نحن فيه بدون أن نأخذ مقعدنا ونتناول الحلواء والفاكهة بل نقوم سراعاً ونهب خماصاً أو بطاناً.

سقى الله أزماناً كان الناس يرتاحون فيها إلى الجلوس على الموائد يتناولون طعامهم وهم يتضاحكون ويتمازحون ويقصون من الأحاديث ما يكون تسلية لقلوبهم وراحة لنفوسهم.

سقى الله أياماً كان أحدنا يسير وأنفه في الهواء وقد تأبط كتاباً. ما هذا الوقاد في القطار الحديدي ألا مهلك المتنزهين في الحقيقة بما خفف عليهم من مؤونة المشي فقد بطلت عادة