للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفتوة والفتيان]

قرأت ما نقلتموه عن تاريخ ابن الساعي من أمر الفتوة والفتيان وذهبتم إلى أنها بجمعية سياسية والأليق أن يقال أنها جمعية للإنسانية تعاهد المنتظمون في سلوكها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج وإغاثة الملهوف وقرى الضيف وما أشبه ذلك من مكارم الأخلاق ولما كان لا بد لمن نصب نفسه للقيام بهذه المقاصد من فرط القوة والنجدة وتوفر الحمية والحفيظة فكان لا بد في هذه الحالة من أن تثور تلك الحمية التي قد تنقلب أحياناً حمية جاهلية وتدخل فيها المنافسات والمناظرات والتساجل بقوة الساعد ووثاقة العضل أو حسن الرماية أو إتقان المضاربة والمطاعنة مما قد يبعد بالجمعية عن أصل وضعها ويصيرها نوعاً مما يقال له مشيخة شباب في بلادنا فيلبس الفتيان سراويلات مخصوصة ويتنافسون في أمور هي محض جهالة ودعارة وإن كان أصل المقصد سامياً شريفاً فقد احتوت هذه الجمعية في وقتها على ما يمدح ويذم شأن سواها من الجمعيات وقد كان يعاب على الخليفة الناصر العباسي اشتغاله بهذه المسائل فقرأت في تاريخ أبي الفداء صاحب حماه في حوادث سنة سبع وستمائة أنه وردت في تلك السنة رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا لها سراويلها وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم أهـ لا جرم أن هذا مما يترفع عنه الخلفاء ولا يليق بأصحاب هاتيك المقامات ثم أنه يقول عند ذكر وفاة الخليفة المذكور أنه كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة ومنع رمي البندق لا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام أهـ ثم أننا وجدنا آثار هذه الجمعية في القرون المتأخرة فقد أخبر ابن بطوطة من أهل القرن الثامن بوجودها في الأناضول وهي متلونة هناك بلون أبنائها من كرم الخلق وحسن السريرة فإن الجمعيات تدخل كل البلاد فتتلون في كل بلد بأخلاق أهله وتحمل طباعهم ولهذا امتدحها السائح الطنجي امتداحاً فائقاً في رحلته الشهيرة فقال: ذكر الأخية الفتيان واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته