للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الهواء المنبعث من تضايق مئات من الأنفاس المجتمعة في أماكن مغلقة يعوزها الترويح والهواء النقي المستنشق مما يؤدي بمن يختلفون إلى تلك المحال إلى اختلال أحوال الهضم والبنية والقوة وتكون أبدانهم مرتعاً خصيباً لجراثيم الأمراض وفي مقدمتها السل.

وما جاء به هذا القرن من الأعمال العلمية والعقلية والطبيعية قد أثر في محيط الناس كل التأثير وخصوصاً في الغذاء والمجموع العصبي. وما أحلى ما قاله أرسطو من أن الإنسان يريد إمتاع حواسه ويبحث عن أسبابه إذ من الملذ للباصرة أن تنظر وللسامعة أن تسمع وللجلد أن يمس وللسان أن يذوق وللشامة أن تستنشق.

وجملة الأمر أن نشوء المجتمع الإنساني في القرن التاسع عشر قد جرى بقوة الجهاد المتواصل الذي أودى بحياة مئات الألوف من الضحايا البشرية وقد نبه في المجاهدين وفي أخلافهم حب الارتقاء والتهذيب العقلي بحيث دخل الفكر الإنساني في دائرة من الحركة المعجلة تسير أبداً إلى غاية لا حد لها وأهلها أبداً في قلق حرصاً على كشف أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها المكنونة والوقوف على القوانين القائمة بها. ولئن عني الإنسان بقمع جماح الطبيعة وفتح الترع وحفر القنوات وابتناء الطرق الحديدية في القفار والسهول الواسعة المتجمدة حباً بربط القارات بعضها ببعض فإنه لم يعمل كل هذا رغبة في توسيع ميدان جهاده وزيادة في مصادر الثروة العامة والخاصة بإيجاد مصارف لمصنوعاته بل هناك شيءٌ من سائق الفطرة دعاه أن ينقل بذور التمدن إلى البلاد الشاسعة في آسيا وإفريقية لأنها ظلت مباينة لأفكار الارتقاء والشعور الإنساني وهما من خير ما أنتجه القرن من صالح الأعمال ولكن هذا الجهاد العظيم الذي اضطرت الإنسانية أن تتحمله مدة قرن كامل قد أحدث أمراضاً مختلفة كما أنه زاد الشقاء الاجتماعي واشتدت حرب الحياة بما لم يعهد له نظير. نعم وقف ولاة الأمر على فساد النظام الاجتماعي الحاضر وأيقنوا بالحاجة الماسة إلى مداواته بيد أنهم تضاءلوا عن الإقدام عليه بداعي قلة ما لديهم من الأسباب في تخفيف نتائج حركة الارتقاء وضعف الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع الحديث. على أن الفطرة هدتهم إلى الأخذ من معارف حملة العلم في فروع المعارف الاجتماعية المختلفة والاهتداء بهديهم وخصوصاً فيما من شأنه أن يكون فيه النظافة العامة وإصلاح حال الطبقة