للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[علماؤنا]

وكيف ينشئون أبناءهم

إن العالم الذي أصفه في مقالي هذا ليس مما أنبتته بلدتنا طرابلس الشام وحدها.

بل يوشك أن يكون من مستنبتات كل بلدة من بلادنا الأخرى.

قضى هذا الفاضل حياته في خدمة العلم وتحقيق مسائله والتأليف فيه. وقد ورث هذا الميل من آبائه فأحبّ أن يورثه أبناً له في السابعة عشرة من عمره فلم يفلح.

وكلما ذكر علماء الطبيعيّات في كتبهم أن الأجسام أو المواد قسمان موصل ردي وموصل جيد يعنون بالأول ما تنتقل فيه الحرارة ببطء. وبالآخر ما تنتقل فيه بسرعة_كذلك الحال في بعض الأشخاص: فإن منهم من ينقل ملكات آبائه واستعدادهم العلمي إلى أبنائه ومنهم من لا ينقل. والأول يصح أن نسميه موصل جيد والثاني موصل ردي

وصاحبنا الذي نحكي عنه هو على ما يبدو من قبيل القسم الأخير: فإنه مع ما أُوتيه من سعة العلم والرغبة في تحصيل فنونه_لم يورث ابنه هذا الميل والاستعداد. فكان كسولاً. فاتر الهمة. منطفئ نار العزيمة. وهل أن ضعف الميل في ذلك الفتى أمر جيليّ فيه أو أنه عرض له بسبب الأسلوب الذي جرى عليه أبوه في تربيته وتثقيفه؟ لا أعلم.

وربما كان القارئ أشدّ علما مني به إذا أطال روحه وأصغى لإتمام الحديث:

قيل للوالد: نراك توبّخ ابنك لأقل هفوة. وتنتهره على ملأ من الناس. وقد بلغ الشابّ فيحسن بك أن تخاطبه بما يخاطب به عادة من كان في مثل سنّه.

فقال: انه يعرف هذا. ويعرف مبلغ تأثير التوبيخ العلني في تشويه أخلاق الناشئين. ولكن هناك ضرورة تستدعي العدول عن هذا الأصل في التربية أصل آخر أجلّ وأسمى.

ولما استوضح الأمر منه قال: أنه كان يؤنّب ابنه على سوء عمله في السرّ.

فكان لا يرعري ولا يزدجر. ثم أخذ يوبخه جهرة صار الولد يحاسب نفسه ويصلح سيرته.

قالوا: ولكنك تشتمه لأمر تافه لا علاقة له بما تقول. فقد سمعناك توبخه مذ وضع الكرسيّ في غير الموضع الذي تريد أن يضعه فيه. وهذا لا يحسن بحال من الأحوال أن يوبّخ عليه. لاسيما وهو لا يعلم الغيب الذي وقر في نفسك من لزوم وضع الكرسيّ في هذا