للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلى ما وراء جبال البرنيه (البرت أو الممرات) في غاله (جنوب فرنسا)، فلم تمض عشرون عاما على افتتاح الأندلس حتى استطاع العرب أن يجتاحوا ولايات فرنسا الجنوبية، وأن يبسطوا سلطانهم على سهول الرون وأن يتقدموا بعيدا في قلب فرنسا.

ولكن إسبانيا المسلمة على حداثة عهدها لم تلبث أن اضطرمت بالفتن والمنازعات الداخلية، ولم تلبث النصرانية أن أفاقت من دهشتها الأولى، وتأهبت للنضال والمقاومة، ولقي العرب بعد ثورة الظفر التي اجتاحت جنوب فرنسا، هزيمتهم الأولى في موقعة تولوشة (تولوز) في ذي الحجة سنة ١٠٢هـ (يونيه سنة٧٢٢ م) وقتل أميرهم وقائدهم السمح بن مالك، فارتدوا إلى سبتمانيه بعد أن فقدوا زهرة جندهم وسقط منهم عدة من الزعماء الأكابر.

وقطعت الأندلس بعد ذلك زهاء عشرة أعوام من الاضطراب والفوضى، وخبت ثورة الفتح، وشغل الولاة بالشؤون والمنازعات الداخلية، حتى عيّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا للأندلس في صفر سنة ١١٣هـ (أبريل سنة ٧٣١م).

ولسنا نعرف كثيراً عن سيرة الغافقي الأولى، ولكنا نعرف أنه من التابعين الذين دخلوا إلى الأندلس، ثم نراه بعد ذلك من زعماء اليمانية وكبار الجند ونراه في سنة ١٠٢هـ، على أثر موقعة تولوشه ومقتل السمح بن مالك، يتولّى قيادة الجيش وإمارة الأندلس باختيار الزعماء والقادة مدى أشهر، ثم لا نسمع عنه بعد ذلك، حتى يولّى إمارة الأندلس للمرة الثانية من قبل الخليفة سنة ١١٣هـ. على الذي لا ريب فيه هو أن عبد الرحمن الغافقي كان جنديا عظيما ظهرت مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكما قديراً، بارعاً في شؤون الحكم والإدارة، ومصلحا مستنيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعا. وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه، فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه، وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وساد الوئام نوعا في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهدا جديدا.

وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شؤونها وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع ألفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدّل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر

<<  <  ج:
ص:  >  >>