للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بخاطري طيف (الغريب) أو وحشة البعيد عن أهله ووطنه.

طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت فيّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حرّ، ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إليّ. .

حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها الجميل بجميل والوفاء بوفاء؛ لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيخ بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم، وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين؛ وكنت أعمل، وسأعمل على أن أجعل من تفاعلات تمازج الأنات المؤلمة ما يزيل العلة الموجعة.

انقضت سنوات أخرى كنت لا أنفك خلالها عن المجيء إلى النادي الشرقي؛ وحدث في عصر يوم من أيام الشتاء أن ذهبت إليه، وكنت متعب الجسم، مكدود القوى، موزع الخاطر، مشرد الفكر، فرحت تواً إلى صالة الرقص وانتحيت ناحية فيها أرفه عن خاطري بقدح من الشراب.

ما كنت لأعبأ بالراقصات والراقصين رغم ما فيهم من رشاقة ودلال جذابين؛ وما كنت لأحس ضربات (الجازبند) العنيفة المؤذية للنفس لأني كنت في شاغل عن كل ذلك.

طال بي الجلوس؛ هممت بالنهوض؛ رفعت رأسي عفواً وإذا بي ألمح سيدة جالسة قبالتي على قيد أمتار مني، ما كدت أتبينها حتى نهضت مسرعاً لتحيتها.

عرّفتني السيدة إلى زوجها، واكتفت بقولها عني: (صديقنا) وذكرت اسمي، فكان هذا التعارف على ما فيه من بساطة واقتضاب كافياً لاستذكار الزوج، فنهض مسلماً سلام مودة وصداقة، داعياً إياي إلى مجالستهما. . . . . . . . انطلقت ألسنتنا بالحديث، تارة عن الحياة الزوجية وسعادتها القائمة على التضحية، والتفاهم، والطمأنينة، وطوراً على الأبناء وعناء تربيتهم، وعما يضحي الآباء في سبيلهم من عواطف زوجية يستغرقها الحنان الوالدي. كنا نتكلم عن كل شئ، وعن كل إنسان نعرفه في لبنان بسرور، ولم ننس الغدير

<<  <  ج:
ص:  >  >>