للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأحراج الصنوبر، ودير (القرقفة) في قرية كفر شيما مسقط رأس السيدة حيث عرفتها هناك، وكنت أُلمح من طرف خفي إلى حوادث الشباب، ولم يصدنا عن الاسترسال في التنقل بالكلام كالأطفال من موضوع إلى آخر إلا دعوة الزوج زوجه إلى الرقص معه، واعتذارها بلطف إليه بحجة الرغبة في الرقص معي رقصة (التانجو).

رقصنا. . . . . . وكنت إبان الرقص كالساهم الغارق في حلم لذيذ؛ كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلمها؛ لم أجتل محياها؛ كنت نشوان بها؛ لم أسمع كلمة منها، بل شعرت بجسمها اللين البض يسترخي شيئاً فشيئاً بين ذراعي. كنا سوية كنبرة وتر مزدوجة عزفها موسيقى ماهر، فصدرت كأنها من وتر واحد، يدفع خطانا وينقلها نقلاً إيقاعياً متناسقاً. . . . . . . . . . وقبل الانصراف تواعدنا على اللقاء في النادي في الليلة القادمة.

طافت بي الخواطر، ثم ألحت عليّ، فآثرت العودة إلى البيت ماشياً لأطلقها في أوسع مجالات الفكر.

رجعت بي الذكريات إلى دمشق يوم بارحتها ويوم لذت بلبنان بقرية صغيرة رابضة فوق ربوة تطل على سهول (الشويفات) ثم البحر، تكتنفها أحراج الصنوبر وقد انتشر منها أرج الأصماغ؛ ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة أشبه بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأحلام!! وتراءت لي أطياف سكان القرية وهي تحج إليه متسلقة الربوة بهمة ونشاط، يتهادون في ابتسام الفجر الساحر المغبر تحية الصباح.

ذكرت إقبال رجال القرية للسلام عليّ ودعواتهم إياي إلى زيارتهم. ذكرت الساعات الطوال التي كنت أقضيها بين الأحراج أفترش الأرض، وأناجي الشجر، وأملأ من جمال الطبيعة قلبي وروحي؛ تراءت أمام عيني صور شيوخ القرية جالسين في القهوة يدخنون النارجيلة ويحلمون، والشباب يلعبون الورق أو يشربون ويغنون؛ كنت أطرب لسماع أغنيتهم المستمدة من وحي روح الطبيعة الساذجة الهادئة، والمعبرة عن دوافع الغريزة بأبسط الكلمات والإشارات.

ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الحري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق،

<<  <  ج:
ص:  >  >>