للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الزاهدين).

فتفرق أكثر هذه الكتب في العواصم الأوربية، إما في مكاتبها العامة، أو في الخزائن الخاصة، والأدباء والعلماء في الشرق يتلهفون شوقاً إليها، ويتحرقون أسفاً عليها، ويسمعون بها سماعهم بأصحابها، حاسبين أنها انقرضت بانقراضهم، وذهبت بذهابهم؛ وهي تختلس من بلادهم، وتنتهب من بين أيديهم؛ واللغة التي أشفت على الهوّة، وأشرفت على المنحدر، في حاجة ماسة إلى نهضة كبرى لإحيائها، وقِوام تلك النهضة هو إحياء تلك المخطوطات البالية، بل الآثار الباقية لأعلام البيان وأمراء الكلام من الكتاب والشعراء، فلبثت هذه الكتب في ظلمات الخزائن مئات من السنين تتعاقب عليها الحقب والأجيال، ويتضافر على تعطيل الانتفاع بها الجهل والإهمال، وتنتفع الجرذان والأرَض بأكلها، أكثر مما ينتفع الأدباء والعلماء بفضلها؛ حتى أتاح الله لها ذلك الأديب النابغ، والشاعر الفذ، فتولى نظارة ديوان الأوقاف، وجمع ما بقي من هذه الكتب في مخابئها؛ وكان هذا هو بدء العمل في إقامة دار للكتب في مصر.

ولا يغيبنّ عن ذهنك أن ما بذله ذلك النابغة رحمه الله من الجهود المضنية في الظفر بتلك الدواوين التي جمع منها مختاراته، لم يكن بأكثر مشقة مما عاناه من التعب المُمِض، والنصب المُقِضّ، في تصحيح ما أفسدته أيدي الجهلة من النسّاخ بل المسّاخ من ألفاظها، وإصلاح المحرّف من كلماتها، وتكميل الناقص من أبياتها، وإعادة البهاء والرونق إلى ما شوه الجهل من جمالها، ومسخ من صورها، وطمس من معالمها، وإن أيسر ذلك لمما يستنزف الجهود، ويستنفد الزمن المعدود، والعمر المحدود؛ فإنك لا تكاد تفتح أحد هذه الدواوين المخطوطة حتى ترى ظلاماً كثيفاً من التحريف والتصحيف قد غشي جميع صحفه، وخيّم على جميع سطوره، فلا يبدو لعينك في وسط هذه الظلمة من شعاع الصواب، إلا كما يبدو ضوء الشهب من خلل السحاب، ولا تكاد تقرأ سطراً خالياً من عدة كلمات محرفة، أو مصحفة، غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى زمن طويل، وبحثٍ غير قليل، وذهن غير كليل؛ وتحفّظ من الخطأ، ودقة في الذوق الشعري ينفذ بها القارئ إلى وجه الصواب؛ وحسن اختيار في المحو والإثبات، وتفهّم دقيق لما يقتضيه سياق الكلام من المعاني والأغراض، ومعرفة بأساليب الشعراء ومصطلحاتهم في

<<  <  ج:
ص:  >  >>