للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

انقبضت، لأن حديث بدر - عنده - حديث ذو شجون، فيسأل نفسه إذا أشتد به الأمر:

- أعهد بدر الثانية عنك بعيد؟ رب أقرب بدراً

وقد عجب أصحابه لوجومه وانصرافه عن مجالسهم، ولم يروا منه إلا كل خلة حميدة، وعقيدة صلبة؛ يرونه يمشي كمن يلوذ بجدار، ويرتاح إلى الليل الأسود كمن يتخذه لباساً، ويجنح إلى العزلة كمن هو على موعد من ربه. . . وتحدث القوم بينهم: ما بال أنس لا يطأ مجالسنا؟ أأذىً به أم عارض؟ وكان الرسول لا يلمحه إلا معتزلاً في زاوية وحده، لا يسمعه سامع إلا هاجساً ببدر، مستفسراً عن بدر؛ وقد أقلق الرسول حاله، فسأله:

- ما خطبك يا أنس؟

فقال أنس:

- (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع!)

ففهم الرسول أمره، وبارك عزيمته وقال:

- أما وقد نويت:

ولم يقف الرسول على شيء من أمره بعد مقابلته. وهاهي المقادير جاءت تنتقم (لأنس)، وتكتب أسمه في سجل الغزاة الثابتين، وهاهي الأيام كرت تجدد (بدراً) ثانية، ليس موعدها بدراً، لكن أُحُدا! فهب البدريون إلى شحذ سيوفهم البدرية ولا تزال أغرتها مكتسية دماً، ورماحهم ولا تزال ثعالبها حُمرا، ونشط من لم يحضروا بدراً لينالوا من الأجر ما لم ينالوه، فكان الأولون يمشون ثابتي الأقدام، مستخفين بأعدائهم عند الروع؛ وكان الآخرون يمشون خفافاً كمن أُزيح عن صدره ثقل الجبال، وقد ارتاحت من أنس نفسه، ودنا يحدث صحبه كأن لم يكن له عهد بتلك الوحشة.

بزغ الفجر من وراء أُحد، وأفاقت قعقعة الرجال: وتيقظ كل ثأر قديم وكل خصومة قديمة، فلم يمهل بعضهم بعضاً بالبراز وإنهم لا يملكون أنفسهم في مثل هذا اليوم، وقد ود (أنس) قبل زحفه إلى الشهادة أن يكلم الرسول فيكتسب منه دعوة صالحة أو يراه فيذكر الرسول وجومه فيقول له:

- إيه يا أنس! اليوم بدر!

<<  <  ج:
ص:  >  >>