للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذلك ليلة العيد، وكانت الدار تضحك سروراً، وترقص بهجة؛ وكان الأطفال ينتظرون مدافع العيد، ليفرحوا ويمرحوا، ويأخذوا عيديّاتهم. . . فلما انطلقت هتف الأطفال، وصاح النساء، وأبتسم الرجال، ولكن. . .

آه من لكن. . . لقد هدْت (لكن) كياني؛ لقد طمست بصري؛ لقد جعلتني قبراً يمشي، ولكن هذا السرور لم يدم؛ ولم تكن إلا لحظة حتى استحال الهُتاف بكاء، والصياح ولولة، والابتسام حيرة وجزعاً. لم تكن مدافع العيد، بل كانت مدافع الموت نزلت على أجمل دار في دمشق، وأهنأ أسرة فيها، فجعلت هذه الأسرة موزْعة بين الموت والشقاء، وهذه الدار مقسْمة بين النار والدماء، ثم انجلت العاصفة، فإذا هذه الدنيا الناعمة العريضة تلْ من التراب. . .

لقد حزنا وجزعنا، ولم ندر ماذا نصنع، فحملت الأم طفلها الرضيع، وأمسكت بطفلها الآخر، وكادت تنجو لولا أن عاطفة الأمومة قد عادت بها لتنقذ سائر أولادها، فسدت النار سبيلها فابتغت سبيلاً غيره، فأستقبلها اللهب، فماتت هي وأولادها، يلفّهم كفن من لسان النار الأحمر. . .

أما أنا وولدي الشاب - رحمه الله على شبابه. . . أه! - أما نحن فما زلنا نجيء ونذهب، نحاول أن ننقذ هذا ونخلص هذه، حتى حملنا الجميع وكدنا ننجو، بل لقد نجوت أنا، وتلفت لأراه فحال بيننا اللهب، ورأيته يشير إلىْ بسلام المودع ثم يسقط صريعاً. . .

لم ينج إلا أنا وولدي الصغير، وليته لم ينجُ، ولكن ما ذنبه هو؟ إنه بريء، إنه نشأ على الفضيلة والعفاف، وربي على الاستقامة والشرف، فكان أكمل التلاميذ خلقاً وأجملهم خلقاً، وأقومهم سيرة، وأكثرهم اجتهادا؛ لم يعرف قط إلا طريق المدرسة، حتى إذا وقعت الواقعة لم يع على نفسه إلا وهو يدور في الأسواق ليلاً بإزار النوم، فاستحيا وجزع وعاد إلى الدار. . . فلم يجد داراً، وجد بقعة من جهنم وقودها الناس والحجارة، فأرتد هائماً على وجهه، وكان ذلك آخر عهدي به.

لقد نسى من بعد هذه الفترة من حياته، نسى أباه المفجوع وأمه الشهيد، وأخاه القتيل، وأهله الصرعى، وأستقر في نفسه أنه مخلوق نبت من الأرض، بين سوق علي باشا، والسوق العتيق، وشارع النصر، وميدان المرجة، ثم قادوه بعد إلى معابد الرذيلة، إلى مذابح

<<  <  ج:
ص:  >  >>