للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صاحبه شيئاً.

في شارع تتماوج فيه عشرات الألوف من نساء مستهترات وسيدات فضوليات من كل جنس متفرجات، يعج بأضعاف الآلاف برجال من كل سن وعمر وقطر ومصر، فيهم العابث المتهتك، وفيهم من هو غير متهتك ولا عابث.

في هذا الشارع الذي لا تهدأ فيه حركة، لا في الليل المنار بمصابيح أضواؤها الجمال والحسن والفتنة، ولا في النهار الذي ينزع فيه الإنسان الدرهم من بين فكي أخيه الإنسان لينفقها في الليل على مباذل المرأة.

في هذا الشارع المكتظ بخلائق كأنها في مهرجان؛ في هذا الشارع تطلق البسمات من الشفاه والغمزات من العيون، وترشق القلوب بسهام النظرات الساحرات؛ فيه يطلق الرجل أعنة الحياء وينضو ثياب الخجل؛ فيه تخلع المرأة العذار وتتشح بالفتنة والشهوة؛ فيه يرتجل الأكمة أبرع عبارات الإطراء الغزلي، وتفتن المرأة في ابتداع شباك الاصطياد؛ في هذا الشرع أنقذني خاتم في إصبع يدي اليسرى من إغراء حسناء لعوب من بائعات البدن؛ في هذا الشارع تصدم البريئات والبريئين من الفضوليين الأغراب بمن لا براءة عندهم ولا فضول، فيحسب المصطدمون والمصطدمين الانزلاق حرية، والاستهتار مدنية، والفجور طابع الأمة.

هذه سيدة قلقة تنتظر المتخلف عن الميعاد! هذا الرجل واقف مطمئن إلى لقاء من وعدته. هذا يعانق تلك، وهذه تقبل هذا قبلات مسكرات، وهذا غريب مشدود يرى ويبصر وكأنه لا يرى ولا يبصر.

في هذا الشارع البهيج الذي يجمع قلب باريس في قبضة الحياة سمعت من يذكر اسمي ولقبي بصوت أيقظ في حاسة غريبة مدفونة في الأعماق منذ أيام الحداثة، فاتجهت صوب رفيق المدرسة الذي لقيني هنا فعرفني، فناداني فاستجبت.

مشينا على غير هدى، تبادلنا ألف تحية وأشواق، يممنا مقهى أعرفه، ولما جلسنا في زاوية منفردة فيه تأملت صاحبي فإذا بالأعوام بدلت من ملامحه وتركت في وجهه بعض التغضن حول العينين، وثنيات واضحة في الجبين، وشعرات رمادية ظاهرة في السالفين، قرأت في نظراته معاني التوطد والثقة بالنفس، ولمحت فيها بقية من آثار الذبول والحزن. أخذنا نتكلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>