للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وليس هذا استسلاما وإنما هو إدراك لحقيقة بغيضة لا يبقى مفر من مواجهتها وتوطين النفس عليها، والإذعان لها كرها. وخليق بهذا أن يكون مؤلماً، ولكن فترته أقصر من أن يكون للألم فيها قيمة أو حساب، وعلى أن عجز الجسم عن المقاومة، يذهب في رأيي بالألم، لأن الألم فيها أعرف نوع من الاستجابة لوقع الشيء أو الحالة، ومتى فقد الجسم القدرة على الاستجابة للمؤثرات فانه يفقد أيضاً قدرته على الإحساس بالألم أو الحزن أو الجزع أو الفزع، لأن شعوره بذلك يقتضي أن تكون هناك بقية من الحيوية، ولو كانت هناك بقية، لاستمرت المقاومة ولظلت رحى الكفاح بين الحياة والموت دائرة

فلست أوافق الذين يستهولون أن يكون المرء مدركا لمجيء الأجل، لأن إدراك المرء لذلك، معناه أنه يدرك أن جهده نفد، وأن مَعين حيويته نضب وجف، وهذا الإدراك وحده وبمجرده، رياضة سريعة للنفس على السكون إلى المصير المحتوم، لأنه إشاعة للموت في الجسم قبل تجربة وقعه، فكأن الإنسان يوحي إلى نفسه الموت - بفضل هذا الإدراك وبقوته - قبل أن ينزل به، فإذا زاره ألفاه مستعدا له، مهيأ لتلقيه؛ والإدراك تهيّؤُ، والتهيؤ ينفي الألم ويستل اللذع.

ومن هنا كانت الشيخوخة - أي الضعف - والمرض الطويل أو المضني، بمثابة التدريب على الموت. وكل امرئ يقرن الشيخوخة أو المرض بالموت، ولا يستغربه حين يحل بالهرم أو الذي خامره الداء، ولكن موت الشاب يصدم النفس ويرجها، لأن الشباب - وهو أوان الحيوية الزاخرة - لا يقترن في الأذهان بفكرة الموت. أما الشيخ الهِمُّ فأن كل من يراه يجري بخاطره أنه هامةُ يوم قريب، وأخلق أن يكون الموت أقرب إلى خاطره وأجرى بباله، وأشد مثولاً وأكثر حضوراً، لأنه أحسَ بنفسه وأدق إدراكا لما خسر من قوته، وعلما بما صار إليه من الوهن والفتور بالقياس إلى ما كان عليه من المنة والنشاط والخفة والمرونة. ويَّألف المرء الضعف واليبس فيألف المصير الذي يرى نفسه ينحدر إليه بسرعة أو على مهل، فيكون هذا كالرياضة له على السكون إلى المآل المحتوم، وهذا هو معنى قولي إن الشيخوخة أو المرض تدريب على الموت.

وهذه الرياضة النفسية - أو التدريب الذاتي - على الموت أفعل وأوقع من كل ما يشاهده الإنسان من عدوان الفناء على الحياة في مظاهرها المختلفة. وأحسب أن المرء حين يرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>