للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صور من التاريخ الإسلامي]

عمر بن عبد العزيز ٦٢ - ١٠١ هـ

للأستاذ عبد الحميد العبادي

٣

ود الحكماء من قديم لو أن ملوك الأرض كانوا فلاسفة أو لو أن الفلاسفة كانوا ملوكاً؛ أذن لاقترنت السياسة بالأخلاق على أساس ثابت مطرد. وتعاونتا جميعا على النهوض بالمجتمع الإنساني، ولاستحال علمنا المضطرب جنة راضية ونعيما مقيما.

وكثيرا ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعتها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة، وتنفي عنهم الألم والشقاوة: فعل ذلك أفلاطون في (الجمهورية) والفارابي في (أهل المدينة الفاضلة) وتوماس مور في (اوطوبيا) كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله.

هذا الحلم الجميل تحقق أو كاد في التاريخ مرة واحدة على ما نعلم، وذلك على عهد الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز، فهو رجل ألقت إليه المقادير بزمام أعظم دولة في الأرض في زمنه، ومع ذلك استطاع أن يقدع شهوته حتى كاد يميتها، وأن يروض نفسه حتى ردها إلى الرضا بالقليل الأقل. ثم تجرد لإصلاح رعيته من طريق العدل والرفق والرحمة فأذاقهم لذة الأمن واليسر والرضا. وفوق هذا وذاك قد ترامت همته إلى ما وراء قومه وبلاده، فطمع أن يجمع شعوب الأرض طراً في نظام واحد يقوم على مبادئ الاخوّة والعدالة والمساواة. وقد وفق ابن عبد العزيز في هذا المطمع البعيد توفيقاً حدَّ من مقداره يا للأسف، أن عجلت إليه المنية وهو لا يزال في ميعة العمر وعنفوان الحياة.

قد اجتمع في تكوين هذه الشخصية العجيبة عاملا الوراثة والبيئة معاً، فأبوه عبد العزيز قد ولي مصر عشرين سنة دلَّت على ثقافته العالية واضطلاعه بأعباء الحكم، وبصره بتآلف القلوب، وجده مروان بن الحكم هو ذلك السياسي الجريء العارف بنفسية الأفراد والجماعات، والخبير بانتهاز الفرص عند إمكانها. وأما نسبه لأمه، فأمه أم عاصم بنت عاصم بن

عمر بن الخطاب، وكفى بانتسابه إلى تلك الشخصية العظيمة تعريفا بسبب من أسباب

<<  <  ج:
ص:  >  >>