للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رويدا رويدا وميله إلى الزهد والتنسك يقوى شيئا فشيئا وأصبحت نظرته إلى الحياة نظرة إلى متاع قليل زائل لا يعدل شيئا بجانب طمأنينة النفس وراحة الضمير كما أصبح دائم التفكير في الموت وفيما بعد الموت، فالموت آت لا ريب فيه؛ والموت برزخ مؤد إما إلى جنة وأما إلى نار والمنتهى على كل حال رهين بما يكون عليه المرء في العدوة الدنيا من ذلك البرزخ الرهيب.

ما سر هذا التطور العجيب الذي جعل من ابن عبد العزيز الناعم المترف ناسكاً زاهداً متصوفاً؟ نتبين ذلك السر في نفسية ابن عبد العزيز من جهة؛ وفي مقدار تأثره بالحياة الإسلامية العامة لذلك العهد من جهة أخرى.

لقد كان في عمر نزوع طبعي إلى الزهد فهو كما رأينا من سلالة عمر بن الخطاب؛ وكان في طفولته يحاول التشبه بخاله الزاهد عبد الله بن عمر ولما تورط في أمر خبيب لبس المسوح سبعين يوما يأسا من غضارة ولذاذة الحياة فلما نصح بالإقلاع عن ذلك أقلع. ثم أن الحياة الإسلامية قد ألمت بها في أواخر القرن الاول نزعة زهد جاءت كرد فعل للمادية التي طغت عليها إذ ذاك. هذه النزعة التي تحولت بعد ذلك إلى الحركة الصوفية المشهورة نتبينها في طبقة العباد والنساك التي يتكلم عنها صاحب العقد الفريد طويلا. وقد خضع عمر لتأثير هذه الطبقة وهو في المدينة فكان من أشد الناس تأثيرا فيه عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة. فلما صار بالشام خضع لتأثير رجلين يعتبران بحق من أقطاب عصرهما علما وزهدا وورعا. هذان هما الحسن البصري ورجاء بن حيوة الكندي. أما الحسن فقد اتصل به عمر من طريق المراسلة ولعله قد أخذ عنه كراهية القول بالقدر الذي ينسب إلى الحسن خطأ. وأما رجاء فقد كان مستشار سليمان بن عبد الملك وكان لذلك أقرب إلى عمر وأقوى به اتصالا.

وبعد فلئن كان النظر في الأحوال العامة قد انتج لعمر ضرورة الرجوع إلى الدين في إصلاح غيره؛ فقد انتج له مزاجه الخاص وتأثره بالزهاد من أهل عصره ضرورة الزهد من اجل إصلاح النفس وتهذيبها. الدين والزهد، هاتان هما الخلتان اللتان كانتا تعمران فؤاد عمر وقلبه عندما أخذ صلحاء الشام يرشحونه للخلافة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>