للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأمر ليس كذلك؛ لأن مثل هذا التركيب القانوني للعقود لم تعرفه القوانين القديمة اللهم إلا الشرع الإسلامي والقانون البابلي الحديث. فإن هذا القانون يعطي نمطاً من صيغة تعاقدٍ يتفق تماماً ونظرية العقود التي أسلفنا بيانها، بحيث أن نفس العقود البابلية الحديثة لو ترجمت إلى العربية يمكن أن تبدو بين الوثائق الإسلامية القديمة المبنية على النحو الآتي: (هذا ما اشترى فلان من فلان. . . وباع هو إياه. . . بتراض منهما. . .). هذه الحقيقة الواقعة تحدو بنا إلى التساؤل: أتوجد علاقة تاريخية بين هاتين الظاهرتين؟ إن الفارق الزمني ليس بكبير مهما يظهر منه عند اللحظة الأولى، فإن الوثائق البابلية الحديثة تبتدئ من أواخر القرن الثامن قبل الميلاد وتستمر إلى نهاية الآداب البابلية حول الميلاد، والقانون العرفي العربي كان قد اكتمل تطوره في القرن السادس بعد الميلاد. بيد أن بعض خواصه قد يرجع إلى ما قبل ذلك. وليس يدعو إلى العجب أن تبقى صيغة وثائق جمدت خلال سبعة قرون لكافة الأعاصير السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق - نقول: ليس عجيباً أن تبقى مثل تلك الصيغة التعاقدية بعد ذلك زماناً، وإن كنا لا نستطيع الجزم بهذا لأننا لا نعلم شيئاً عن تلك الفترة. على أن الاستمرار التاريخي للبيئة مؤكد على الأقل؛ ذلك أن العراق كان يسكنه منذ القرن الثامن قبل الميلاد وعلى الرغم من تبدل الأسر الحاكمة أولئك السكان الآراميون الذين لم يزالوا يسكنونه في خلال الفتح العربي والذين سماهم العرب بالنبطيين. أما القانون المعرفي العربي فإن التأثر الذي يمكن أن يكون تناوله من جانب العراق ليس أقل احتمالا من التأثير الذي أصابه من ناحية سورية، وهذا مؤكد لأن التجارة العربية كانت تتجه نحو القطرين على السواء. وصفوة القول أنه من الراجح رجحاناً كافياً أن صيغة العقود ذات الجانبين أي الإيجاب والقبول قد توورثت من القانون البابلي الحديث. وقد ألمعنا إلى أن تلك الفكرة القانونية في انعقاد العقود ليست بالوحيدة الإمكان، فإن هنالك فكرة أخرى منتشرة انتشارا واسعاً في القوانين القديمة تعتبر العنصر الجوهري موجوداً في تصرف واحد من المتعاقدين. مثال ذلك أن ينعقد البيع بنزول البائع عن حقه في الشيء المبيع للمشتري في مقابل ثمن معين. ويظهر من الاصطلاحات العربية أن القانون العرفي قبل الإسلام كان قد عرف هذه الفكرة في طبقة سابقة لدخول الصيغة التبادلية في العقود، وهذه الاصطلاحات بلا شك إلى الزمن الجاهلي أيضاً. فبينما

<<  <  ج:
ص:  >  >>