للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[منطقة الإيمان]

للأستاذ توفيق الحكيم

حينما كنت وكيلاً للنائب العام كنت أرى عجباً في قاعات المحاكم وجلسات التحقيق؛ وكنت أفكر كثيراً في أمر ذلك الشرير الذي طالعت صحيفة حياته فإذا آثام ودماء تسيل منها، ومع ذلك يقف أمامي متطلعاً إلى السماء، ويأبى أن يقسم بالمصحف كذبا. هذا الآدمي قد انطلقت غرائزه الدنيا لا يقوم لها شيء، لكن بقيت برغم هذا في نفسه منطقة عذراء لم يتطرق إليها فساد: منطقة العقيدة! أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والغريزة؟ كذلك كان يدهشني أمر صديق من خيرة القضاة، كثير الورع، حريص على العبادة والصلاة؛ ومع ذلك بقي عقله حراً من كل قيد. ما يدور بيننا حديث في الخالق والخليقة حتى يذهب هو في التدليل والمنطق كل مذهب إلى أن يقع في الإلحاد وإنكار الجنة والنار. وينادي المؤذن بالصلاة فإذا القاضي يسرع مخلصاً إلى ذلك الدين الذي قال فيه منذ لحظة قولاً عظيما. أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والعقل؟

إذا قلنا مع القائلين إن العقل والقلب والغريزة ملكات ثلاث منفصلة إحداها عن الأخرى، فإن هذا القول يؤدي حتما إلى نتائج غريبة قد تعدل من نظرتنا إلى الأشياء. ولعل أول ما يفهم من هذا الاستقلال بين ملكات تباين ألوان الحقيقة لدى كل منها؛ فما يصدق عند القلب، قد لا يصدق عند العقل. بل إن كل ملكة من تلك الملكات تسيطر على عالم مختلف جد الاختلاف عن عالم الأخرى. يقابل ذلك في المحسوسات تلك الحدود والحواجز بين الحواس، فعالم البصر منفصل عن عالم السمع، والحقيقة البصرية غير الحقيقة السمعية، وما يعتبر موجوداً في منطقة العين لا يعتبر موجوداً في منطقة الأذن، فهذا الحجر الساكن حقيقةُ تراها العين المبصرة، ولكن الأذن لا تدرك ولن تدرك هذه الحقيقة، ولن تعرف مطلقاً ما هو الحجر وما شكله، لأن عالمها وهو عالم الأصوات لا يخطر له على بال أن في الوجود عالما يسمى عالم المرئيات. فالعقل لا يدرك إلا ما يلائم وظيفته وما يخضع لمقاييسه. والحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة، وليست الحقيقة كلها. ولكنها الحقيقة التي يستطيع العقل أن يراها من زاويته. فإذا كانت العقيدة مرجعها القلب، فإن العقل لن يرى منها إلا الشطر الذي يستطيع أن يراه، ويظل محجوبا عنه الشطر الواقع في دائرة القلب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>