للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والجمل، إلى البحر والنهر، إلى السماء والأرض، إلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، إلى الشمس والقمر، إلى الليل والنهار. والقرآن مملوء بالآيات التي تصل الإنسان بالعالم، وتصل العالم بالقلب، وتبعث حرارة الإيمان بالله، وتملأ القلب حياة وحماسة. وهذا هو الذي ملأ صدر الصدر الأول من المسلمين بالعقيدة، وجعلهم يبيعون أنفسهم في سبيل الله عن سخاء. وهذا بعينه هو الذي شجع المسلمين على البحث العلمي، فقد اتجهوا إلى العالم يستدلون به على خالقه فدفعهم ذلك إلى العالم يتعرفون طبيعته وقوانينه، وهذا هو العلم. لم يطلب إليهم الإسلام أن يعيشوا في صوامع يديرون طاحونة العقل على هواء، بل طلب إليهم أن يتصلوا بالعالم يدرسونه وينظرون فيه خلقه وخالقهم، فكان ذلك داعية للعلم والمدنية معاً. لم يتطلب الإسلام من صاحبه أن يعيش عيشة روحية مطلقة مجردة عن المادة، بل طلب إليه أن يمزج الحياة الروحية بالحياة المادية، وأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يتزوج ويصلي، وأن ينعم بالحياة فلا يحرم على نفسه زينة الدنيا وطيبات الرزق كما ينعم بالنظر وبالتفكير في ملكوت الله، وبعبارة أخرى لم يتطلب الإسلام من الإنسان أن يكون ملكا، وإنما طلب إليه أن يكون إنساناً كاملا، يعيش وفق ما خلق، فقد خلق جسما وروحا، فلجسمه عليه حق، ولروحه عليه حق؛ فلا عجب بعدُ أن رأينا المسلم يساهم في بناء المدنية لأنها واجبه، وفي بناء الروحية لأنها مطلبه

لم ينح الإسلام منحى العلم، يقرر القوانين جافة جامدة كما تفعل العلوم الرياضية والطبيعية، وكما تفعل الميتافيزقيا اليونانية فهذا هو العلم؛ ولكنه سلك مسلكا سماه (الحكمة) وقال: (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)؛ وما الفقر بين العلم والحكمة؟ العلم هو هذا النوع من المعرفة التي تأتي من طريق الحواس وما تألف منها؛ فإذا نظمت هذه المعارف ووضعت كل طائفة منها في مجموعة سميت علماً. أما الحكمة فمزج الروح والنفس بالعالم، والعلم يغذي العقل وحده؛ أما الحكمة فتغذي العقل والمشاعر، وهذه المشاعر هي التي عبر عنها الدين بالقلب والفؤاد. إذا كان العلم ينظر إلى الإنسان فيقسمه إلى أجناس، وإلى أمم، وإلى ذكور وإناث، فالحكمة تنظر إلى الإنسانية في الإنسان وإلى الإنسانية التي من ورائها الله يسيرها وينظمها ويمنحها الوجود ويمدها بروح منه. وإذا كان العلم يقسم النبات إلى فصائل، ويميز اختصاص كل فصيلة، فالحكمة ترى في اختلاف

<<  <  ج:
ص:  >  >>