للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دراية لهم بشيء بعد المحراث والفأس، وهم يخرجون ألوفا إلى خارج المدن والقرى، لا يدرون كيف يفعلون، ولا أنى يتجهون، فلا تكون إلا ساعات حتى يحصدهم العدو حصداً، أو يحصد بعضهم بعضا في فزع حرب لا عهد لهم بها. لا بل إنهم كانوا يستسلمون كما يستسلم الدجاج ليذبح واحدة بعد واحدة، وهي تستسلم للهلاك خوفا من رهبة الدفاع عن أنفسها

لقد سلبهم الطغاة ما كان فيهم من رجولة بالعسف المتواصل جيلاً بعد جيل، وبالخنوع والإذلال يتوارثونه ابنا عن أب عن جد. ألا فليحمل الطغاة وزر هذه المخازي، ولتلطخ ذكراهم بإثم هذه المجازر لا براءة لأحد منهم منذ بدأ الحجاج جريمته في تذليل الأمة الإسلامية لحكم الطغيان. وترامت أنباء هذه المجازر إلى مصر فلم تجد من نفسها فراغاً إلى أن تملأ آذانها بها إذ كانت تناضل نضال الأبطال في دفاع الصليبين عن أرضها. إذ بينا كانت مذابح التتار تفتك بالمسلمين فيما بين نهري سيحون وجيجون، كان الصليبيون يفدون ألوفاً مؤلفة إلى شواطئ مصر يريدون أن يرموا بفتحها قلب دولة الإسلام. وكان بمصر بقية الدولة الأيوبية، فكان ملوكها يردون من ذلك الفتح موجة بعد موجة، فالملك الكامل يدفع حملة دمياط الأولى، والملك الصالح يقف لجيش فرنسا وحلفائها ويموت وهو في ميدان الحرب فيخلفه ابنه الملك طوران شاه فيقضي على جيش لويس التاسع، ويتم الفتح بأسر الملك الصليبي المتحمس. وهكذا علمت مصر دول أوربا أنها لن تكون هينة في النضال إذا شاءوا نضالاً

ولما تنفست مصر من حملات الصليبين راعها ما سمعت من دوي التخريب في مدن الشرق، وكان قد علا وصار مرعباً فظيعا. وكان أعلى ذك الدوي ما جاء من بغداد إذ فتح هولاكو عاصمة الخلافة وألحقها بالخراب الذي خلفه جده بين سيحون وجيجون، وسمع من بمصر أن خزائن العلم وآثار المدنية في دار السلام قد صارت كلها أثراً بعد عين، وأن دولة الإسلام العظيمة قد تحطمت وانهارت كأنها لم تكن من قبل ملاذ الحضارة والفن والعز منذ قرون. فاختلط في نفسها الحزن على مجد الإسلام الضائع والخوف من أن ينالها من ذلك التيار المدمر ما نال سائر معاقل الإسلام

واندفع التيار المدمر بعد اجتياح بغداد فسار في سبيله إلى الغرب حتى بلغ الشام، وكانت

<<  <  ج:
ص:  >  >>