للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[على أبواب المدينة]

ثنّية الوداع

للأستاذ على الطنطاوي

مضت ساعة كاملة، ونحن نعالج السيارة لنخرجها من الرمل، نرفعها طوراً بالآلة الرافعة وطوراً بأيدينا، ونزيح الرمال من طريقها، ثم نمدّ لها ألواح الخشب لتمشي عليها، ونجرها بالحبال، وندفعها بالأيدي حتى إذا سال منا العرق، ونال منا التعب مشت على الألواح، حتى إذا وصلت إلى نهايتها، عادت فغاصت في الرمال إلى الأبواب. . . . . .

فأيسنا وبلغ منا الجهد، وهدّنا الجوع والتعب والحرّ والعطش، فألقينا بأنفاسنا على الرمل صامتين مطرقين، حيارى قانطين

وتلفتّ فلم أر إلا الرمال المحرقة، تمتد إلى حيث لا يدرك البصر، متشابهة المناظر، متماثلة المشاهد. . .

في مَهمهٍ تشابهت أرجاؤه، كأن لون أرضه سماؤه، فرحت أفكر في هذه السبعة عشر يوماً، وما قاسينا فيها من الجزع والتعب والجوع والعطش، وأتصور الغد الرهيب الذي ينفد فيه ماؤنا وزادنا، ويلفحنا فيه سموم الحجاز وشمسه المحرقة، فأرتجف من الرعب

وجعلت أحدّ النظر في هذا الأفق الرحيب، لعلي أرى قرية أو خياماً، فلا أرى إلا لمع السراب، ولا أبصر إلا هذه الجبال التي طلعت علينا أمس فاستبشرنا بها وابتهجنا وظنناها قريبة منا، فسرنا مائة وعشرين كيلاً وهي قيد أبصارنا، تلوح لنا من بعيد كأنها بحر معّلق حيال الأفق ضائع بين السماء والأرض. . . لم تضِح ولم تقترب

فشققت هذا السكون وصحت بالدليل (محمد العَطَوى)

- يا محمد! إيش تكون هذه الجبال؟

- فقال: هذه يا خوي جبال المدينة، وحّنّا (ونحن) إن شاء الله الظهر فيها

- قلت: ما تقول؟

ووثبت وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقي، وأحسست كأن قد صبّ في أعصابي عزم أمة، وقوة جيش، وظننت أني لو أردت السحاب لنلته، ولو غالبت الأسد لغلبتها، ولو قبضت على الصخر لفتته، وجعلت أقفز وأصرخ، لا أعي ما أنا فاعل. فقد استخفني

<<  <  ج:
ص:  >  >>