للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صديقها الأديب جالسا أمامها جلسة المتأدب الخاضع الذي ينتظر أن يفرغ سيده له ويلتفت إليه. فلما رأته لم تدهش ولم تنكر، ولكنها أظهرت ضيقا به وغضبا عليه، وقالت في لهجة حازمة: أتعلم أني أكره هذا النوع من اللعب، وأنك توشك أن تغيظني وتحفظني وتصرفني عنك إن مضيت فيه؟ قال في صوت خافت غير مطمئن: أعلم ذلك حق العلم وآلم له أشد الألم، ولو استطعت أن أكون عندما تحبين ما أثقلت عليك، ولا ترددت في طاعتك، ولا تحولت عما يرضيك. ولكن ما رأيك في أني لا أحب أن أموت، قالت ولم تملك نفسها من ضحك غالبته فغلبها: لا تحب أن تموت؟ قال نعم لا أحب أن أموت، ألم تفهمي بعد؟ قالت: ومتى رأيتني أحل الألغاز؟ قال: والغريب أنك قد عاشرت الفرنسيين فأطلت عشرتهم وأتقنت لغتهم وآدابهم الرفيعة والشعبية حتى كأنك واحدة منهم. فكيف يغيب عنك ما يتحدثون به كلما هموا برحيل أو فراق، وهل تعلمين شعراً وجد عددا ضخما من الرواة، تختلف طبقاتهم وتتفاوت منازلهم كهذا الشعر الذي ينشده الفرنسيون كلما هموا أن يفترقوا إنما السفر ضرب من الموت بالقياس إلى المحبين، قالت: وقد نسيت غضبها واطمأنت إلى طبعها، وخرجت من التكلف ولاءمت بين حديثها ومظهرها، وبين ما وجدت من الغبطة بلقائه الذي كانت ترجوه، والذي كانت تغضب وتحزن لو لم تظفر به، فأنت إذا تريد إلى هذا اللغو من الحديث، قال أنت تزعمين أنه لغو أما أنا فأراه الجد كل الجد، والحق كل الحق. ولولا أن السفر ضرب من الموت لما كرهه المحبون، ولا سخط عليه الشعراء، ولا تغنوا آلامه وأحزانه. ولولا أن السفر ضرب من الموت حين يفرق بين الناس لما رأيتني الآن في هذا المكان بعد أن افترقنا على أن لا نلتقي حتى يمضي شهر أو أكثر من شهر.

ولكني فكرت بعد أن افترقنا، فرأيت أني ميت بالقياس إلى كل الأصدقاء الذين تركتهم في مصر، مهمل بالقياس إلى كل هؤلاء الناس الذين كانوا حولي في نيس، والذين سألقاهم في باريس، وأني لاحتفظ من الحياة إلا بشعاع ضئيل، هو هذا الذي أحسه حين أصحبك وأسمع لك وأتحدث اليك، فشق علي أن أجود بهذا الشعاع، وأن أسلم نفسي للموت المطبق والإهمال المطلق شهراً وبعض شهر، ولولا خوف الموت والضيق بالإهمال ما خرجت عن طاعتك ولا خالفت عن أمرك، ولا عرضت نفسي لهذا الغضب اللاذع وهذه الثورة المهينة. قالت: فقد عدت إلى ذكر الغضب والثورة كأنك تريد أن أنكرهما أو أعتذر منهما أو أنبئك

<<  <  ج:
ص:  >  >>