للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الناس يجتنبون بعضهم بعضاً، وقلما يتزاور الأقارب أو لا يتزاورون أبداً؛ وألقت الكارثة الرعب في قلوب الناس جميعاً، رجالاً ونساء، حتى أن الأخ كان ينبذ أخاه نبذ النواة، والأخت أخاها، والمرأة زوجها؛ بل أروع وأبعد عن التصديق أن الأباء والأمهات أضربوا عن رؤية الأبناء أو تعهدهم، كأنما ليسوا من ذويهم)

(بل لقد هجر الناس الجيران والأقارب والخدم حتى اضطروا إلى ارتكاب عادات لم يسمع بها، من ذلك أن المرأة مهما كانت من الجمال أو النبل، إذا أصابها مرض واضطرت إلى استخدام رجل، شيخا كان أو شابا، فإنها تكشف له دون خجل كل أجزاء جسمها إذا اضطرتها ظروف المرض، وربما كان ذلك هو السبب في انحلال الحشمة والحياء عند أولئك اللائى نجون)

ثم يقول: (وكان يعنى بدفن الناس بادئ ذي بدء، فيلقى بهم دون احتفال في أول مقبرة؛ فلما اشتد الوباء، كان الموتى يحملون جماعات، ويلقون في الطرق؛ وقد تموت أسر برمتها فلا يبقى منها إنسان؛ وأزواج وآباء معا، ويلقى الجميع بلا تمييز في حفر كبيرة)

تلك هي الأحداث والمناظر المروعة التي أذكت خيال بوكاشيو، وأوحت إليه كتابة أعظم آثاره، وهيأت له في نفس الوقت ذلك الأفق المعنوي الحر الذي جرى في ظله قلمه، ويلخص لنا بوكاشيو غايته من تأليف ذلك الأثر في قوله: (ولقد رأيت ترويحاً للسيدات العاشقات وتعزيتهن - وتكفي في ذلك لغيرهن الإبرة والمغزل - أن أقص مائة خرافه أو ما شئت أن تسميها)

ثم يقول: (ومن ذا الذي ينكر أن الأفضل أن نقدم ذلك العزاء للسيدات العاشقات لا للرجال العاشقين؟ ذلك أن السيدات العاشقات يفضن خجلاً وخوفا؛ ويرغمن على إخفاء جوى الحب في صدورهن، وتحملهن رغبات الآباء والأمهات، والأخوة والأزواج، وأهواؤهم وأوامرهم، على أن يقضين معظم أوقاتهن معتقلات في غرفهن الضيقة، فيجلسن عاطلات ويستعرضن في أذهانهن أفكارا مختلفة لا يمكن أن تكون مرحة أو سارة)

وكتب بوكاشيو قصصه الساحرة في ذلك الأفق الذي تعمره أشباح الفناء، والناس ينظرون إلى الحياة كأنها لعب طائر، ويودعون بعضهم بعضاً، واختار لكتابه هيكلا طريفاً خلاصته، أنه في ذات يوم ثلاثاء، وعصف الوباء في أشده، اجتمع في كنيسة القديسة (ماريا نوفيلا)

<<  <  ج:
ص:  >  >>