للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الناس على حال واحدة لا تتغير، فإن الحال التي لا تتغير مدعاة السأم والملل كسأم الذي يعيش في مكان قفر موحش لا يرى منه إلا مظهراً واحداً لا يتغير في أرضه أو سمائه

ولعل من أشد العقوبات وأقساها أن يحكم على إنسان ألا يأكل طول حياته غير السُّكَّر، فهو قد يشتهيه في أول الأمر، فإذا طال به العهد اعتراه السأم والملل؛ وكذلك ربما كان الجفاء مدعاة إلى التمتع بالإخاء، وقلة الاكتراث مدعاة إلى التنعم بالإكرام، والبغض حافزاً إلى استمراء الحب، كما أن اللذة لا يحسها إلا من يستطيع الإحساس بالألم. وهذه فلسفة لا شك فيها، ولكن الكثير من أمزجة النفوس تأباها، إما لأنها مرهفة الحس فلا تنسيها اللذة الألم والإخاء الجفاء، وإما لأنها إذا أحست ألماً أو عانت جفاء أو قاست عداء لا تطمئن إلى زواله، وقد تستبطئ زواله فيدركها اليأس والحزن

والحزن من تقلب النفوس وتلونها واختلافها نفساً عن نفس وحالاً عن حال كثيراً ما يدرك الشاب القليل الخبرة بالحياة والنفس الإنسانية، فهو لغرارته يحسب أن الحياة على مثل واحد يرتضيه، وأن النفس على خلة واحدة يحمدها، فإذا فطن إلى تقلب النفوس وتذبذبها وقلة استقرارها وجمعها بين الأضداد، وإذا راعه كل ذلك بسبب غدر صديق أو جفاء جليس أو عبث عشير أو شر رفيق أو كيد أليف أو بغض حبيب كاد ينفطر قلبه أو كادت تنهار دنياه، ولكن أكثر الشبان يستطيعون إذا طال بهم العمر ومد لهم فيه أو يوفقوا بين الحياة وبين مثلهم الأعلى، أو تطغي الحياة وما تدعو إليه على مثلهم الأعلى فتمحوه ويصير كل منهم في مودته مثل مقياس الحرارة (الترمومتر)، فتارة ترتفع مودته إلى درجة الغليان، وتارة تنخفض إلى ما هو تحت الصفر من درجات البرودة. وقس على المودة غيرها من الاحساسات

وإنما تصلح الحياة وترقى وتملح إذا لم يمح تذبذب النفوس المُثُل العليا منها. وخير خطة للمرء ألا يحزنه تقلب النفوس واختلاط خلال النفس، وألا يدع هذا الاختلاط والتذبذب يطغيان على كل شعور نبيل، فيجمع بين الاطمئنان ونشدان المُثُل العليا إذا استطاع ذلك

عبد الرحمن شكري

<<  <  ج:
ص:  >  >>