للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

درساً عميقاً، ثم يظهرون القراء على نتيجة جهدهم ومدى درسهم وقصارى بحثهم.

وشيء آخر كان له دخل كبير في رقي النقد الأوربي وضعف النقد العربي، وأعني به (التخصص)؛ وهذا ظاهر في المجلات الأوربية وكتابها. فأما المجلات فتخصصت، فمجلة للجغرافية خاصة، ومجلة للاجتماع، ومجلة للأخلاق، ومجلة للقصص، ومجلة للسياسة، ومجلة للثقافة العامة. فإذا ألف كتاباً في الجغرافيا أو الاجتماع أو الأخلاق فالمجلة الخاصة بذلك تنقده؛ وإذا هي نقدته عن خبرة تامة بالموضوع وتخصص فيه. وبهذا يفخر المؤلف بأن مجلة كذا مدحت كتابه وأثنت عليه، لأن المدح صدر من واسع الاطلاع عميق البحث يحترم نفسه وقراءه. وأما الكتاب فيشعرون هذا الشعور نفسه، فلا يتعرض ناقد لكتاب ليس من موضوعه الخاص وإن كان مثقفاً فيه ثقافة عامة. فإذا عرض على أديب كتاب في علم النفس أحترم نفسه وقراءه فلم يكتب فيه، وعد ذلك كأديب ينقد رياضيا، أو شاعر ينقد فلكيا، وأنه مهزلة لا يصح أن يقع فيها، وأن الشأن في المعارف كالشأن في الطب، فكما لا يصح أن يداوي طبيب عيون مرضاً باطنياً ولا طبيب الأذن مرض اللثة، فكذلك لا ينقد أديب تاريخياً ولا قصصي جغرافياً؛ إلا إذا تعرض للكتاب من ناحية الأسلوب. بل هم سائرون إلى أكثر من ذلك فيريدون أن يتخصص الأدباء في فروع الأدب نفسه فلا ينقد قصصي كاتب رسائل، ولا ناقد الرسائل والمقالات قصصاً.

إن شئت فانتقل بعد معي إلى الحال عندنا. هل يتعفف أكثر النقاد عن أن ينقدوا ما ليس من اختصاصهم؟ فالكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً عن تاريخ نابليون، وكتاباً عن جزيرة العرب، وديوان شعر. وهو يرى أنه يستطيع أن ينقد كل شيء فلا يأتي بشيء. ومن أجل هذا قدر الناس أكثر النقد العربي بما يستحقه فقط. فمدح المجلة والصحيفة للكتاب لا يدل على شيء وراء هذه العبارة، ولا يدل على أن للكتاب قيمة ذاتية. ولا يستطيع مؤلف عربي أن يتقدم إلى هيئة محترمة ببحوثه ليقول إن مجلة كذا العربية قرظتها وقالت فيها كذا. كما يفعل من يتقدم بمؤلف كتب بلغة أوربية فيستدل على قيمة عمله بأن مجلة كذا نشرته، ومجلة كذا قرظته.

ثم الناقد الحق قاض عادل. والقاضي العادل لا يقضي حتى يدرس قضيته من جميع نواحيها فلا تفوته جزئية منها؛ وهو عالم بالقانون وبالمواد التي تتصل بقضيته محيط بها؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>