للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار وأما أمثلة المحاكاة المبنية على التوبيخات فهي غير موجودة عندنا، إذ كان شعراؤنا لم تتميز لهم هذه الأشياء ولا شعروا بها. ولا أدرى ما يريد ابن رشد بهذه التوبيخات، فان كانت الاعتذاريات فللأدب العربي طائفة منها قد تكون قليلة، ولكنها رائعة لطيفة المأخذ. وكفي باعتذاريات النابغة دليلاً؛ ومن يجحد ما للمتنبي والبحتري من لطيف الاعتذار والتوبيخ، والعتاب؟ ثم ينتقل ابن رشد إلى بحث صناعة الأشعار القصصية، ويريد بها حوادث التاريخ فيقول: إن محاكاة هذا النوع من الوجود قليل في لسان العرب (وكأنه يعترف ضمنا بوجود أنواع منه) وهوميروس هو أبرز من عندهم. ومن جيد ما في هذا المعنى للعرب قول الأسود بن يعفر:

ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم، وبعد أياد

أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد

جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد

فأرى النعيم وكل ما يُلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد

وقد تدل هذه الأبيات الخالية من الروح القصصية على أن ابن رشد لم يتفهم جيداً ما أراد أرسطو بصناعة الأشعار القصصية. ذلك لأنه لم يتأت له أن يقف على هذه الصناعة ويعرف مناهجها. ولأن تكون هذه الأبيات إلى باب العبر أحق من إلحاقها بباب القصص. وما أكثر ما تتردد هذه النغمة في شعر العرب؟ وهى نغمة شاذة عن الألحان القصصية، لأن الشاعر فيها يستلهم عاطفته؛ والقصة لا يغني فيها استلهام العاطفة وحدها. وكأن ابن رشد أراد أن يستنفذ حكمه كمؤرخ فاستطرد وقال: وقد أثنى أرسطو على هوميروس. وكل ذلك خاص بهم وغير موجود مثالهُ عندنا. إما لأن ذلك الذي ذكرت غير مشترك للأكثر من الأمم، وإما لأنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع وهو أبين!

(البقية في العدد القادم)

خليل هنداوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>