للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قال الراوي: ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن فإذا هناك رجال من علماء المسلمين، إثنان أو ثلاثة (الشكُّ في ثالثهم لأنه حليق اللحية). ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة؛ ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب (اللالحية) فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين، أحسبهم يحتجون بقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)؛ وكل امرئ فإنما تُبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم، أبلحية أم بلا لحية. . .؟

وأدرت عيني في وجوههم فإذا وقار وسّمْتٌ ونور لم أر منها شيئاً في وجه صاحب (اللالحية)؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعريَّ البديع الذي ورد في بعض الأخبار من أن لله تعالى ملائكة يُقْسِمون: والذي زين بني آدم باللحى.

وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافيةً على طبيعتها فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جواً روحانياً من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بُعد، فكان هذا أبلغ رد على ذاك

قال: وأنصت الشيوخ جميعاً إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافيةً صُلبة حتى كأنها صَخبُ معركة لا فنُّ خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض

فقال أحد الشيوخ الفضلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء في الخبر: تَعِس عبدُ الدينار، تَعِس عبدُ الدرهم، ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصاً وشحاً؛ (ومن يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون)، ولو تعارفت أموال المسلمين في الحوادث لما أنكرتهم الحوادث

فقال آخر: وفي الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب. فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) لأسرع العامة إلى ما يحبه الله

قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: إنها في أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم؛ فنحن في آخر الزمان وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة

<<  <  ج:
ص:  >  >>