للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ما انحدرت إلى الشارع ووقفت على الرصيف الآخر المقابل لرصيفنا ونظرت إلى عمارتنا، وقد وجدت في كل مرة أن النوافذ جميعاً إما موصدة أو لا أحد فيها. ثم إني أعرف متى يكون مساكنيّ في بيوتهم ومتى يخرج كل منهم؛ فقد لاحظتهم جميعاً وعرفت عاداتهم - حتى الشبان الملاعين الذين تخشى مزاحمتهم - فلا أحد هناك تنظر إليه أو ينظر إليها سواي في هذه العمارة الضخمة ذات الطبقات السبع. فهي لا شك تعنيني وحدي بكل ما يبدو عليها من ارتياح واشمئزاز، ومن نفور وإقبال، وأنا المقصود بكل ذلك. ومؤدى هذا أن لها عناية بي، وليس المهم أن تكرهني أو تحبني فإن المآل واحد في الحالتين؛ ومتى نجح الرجل في لفت المرأة إليه فانه يستوي أن تظهر له البغض وأن تبدي المودة؛ فان المهم أنها صارت تعني به، وأنها أصبحت مشغولة بأمره، ولا بد أن يؤدي هذا إلى الحب آخر الأمر. فليس للحب أول عند المرأة إلاّ العناية مهما كان باعثها والداعي إليها، ولا ريب في عنايتها بي. بل في وسعي أن أقول وأنا آمن ومطمئن إنها تدرسني في الصحة والمرض، والسرور والحزن، والضحك والكآبة، والجد واللعب. بل هي ترصد كل حركة لي، وكل إشارة، وتتبع ما يصدر عني وما يكون مني ما دمت بادياً لها، وقد كنت أمس أنظر من الشرفة إلى الطريق وأتأمل الرائحين والغادين وأسرّي عن نفسي بمناظر الناس وما يكون منهم، فاتفق أن رأيت فتاة في ثوب بني محبوك وحذاءين خيل إلي أن أحدهما أبيض والآخر أسود، فاستغربت أن تلبس فتاة حذاءين مختلفي اللون، ودعوت إحدى من في البيت إلى النظر فوقفت مستغربة مثلي، وكانت الفتاة تروح وتجيء على الرصيف في انتظار الأمنيبوس، وقد أبطأ عليها فطال تمشيها أمامنا، وطال عجبنا من حذاءيها المختلفين، وكنت أشير إليها وأنا أتحدث عنها ثم رفعت رأسي إلى شرفة الأرجوانية فإذا فتاتي قد نهضت وانحنت تطل على هذه الأعجوبة، وقد ظهر لنا أن الحذاءين ليسا مختلفين وأن كل منهما نصفه أبيض والنصف الآخر أسود. ولما كانت الفتاة تسير وجانبها ألينا فأنه لم يكن يبدو لنا من لوني كل حذاء إلاّ جانب واحد، ولهذا ظنناها بالغت وأسرفت في الأناقة إلى حد اتخاذ حذاءين: واحد أبيض، والثاني أسود

أريد أن أقول إن بال الأرجوانية إليّ - لا شك في ذلك - وأن عينها على كل حركة لي وأنها تتعقب إشاراتي - وكلامي أيضاً - وتحاول أن تدرك المقصود منها والمراد بها، ولم

<<  <  ج:
ص:  >  >>