للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تتوثب لفتح عدوتها ثقافيا، وقد تم لها ذلك بأسهل مما تم الفتح العسكري لرومة فأصبح الأثينيون أساتذة للرومان في بضع سنين، ولم يبدأ العصر الروماني الذهبي بالفعل إلا بعد أن تلقحت أذهان الرومان بهذا اللقاح اليوناني العجيب.

والمسلمون أيضاً. فعصرهم الذهبي لم يكن عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عصر الخليفتين أبي بكر وعمر، ولا عصر معاوية أو عبد الملك بن مروان أو الوليد بن عبد الملك، بل كان ذلك في عصر هارون وابنه المأمون في الشرق، وفي عصر عبد الرحمن الناصر في الغرب. أما العصور الإسلامية قبل ذلك فقد كانت عصور دعوة وجهاد في سبيل الله وتعليم المسلمين الجدد تعاليم الدين الجديد، فلما استقر له الأمر في البلاد المفتوحة جاء دور الحضارة وجاء دور التفكير الهادئ، وجاء دور التلقيح للذهن الإسلامي بثقافات الأمم المختلفة التي دخلت زرافات في دين الله، فأثرت في الآداب الإسلامية كما أثر الإسرائيليون سواء بسواء.

وقد رجعنا إلى عشرات من المصادر علنا نوفق إلى أصل لأحاديث المعراج الملفقة في المائة سنة الهجرية الأولى فلم نهتد إلى شيء منها، وأكبر ظننا أنها لم تكن قد لفقت بعد، وأكبر ظننا أيضاً أن الأمم اللاتينية لم تكن قد تحرشت بالمسلمين في هذه الفترة. . . أما بعد أن عرفت هذه الأمم الإسلام والمسلمين فقد راجت السير عن المسلمين وعن نبي المسلمين وعن الفتوح الإسلامية، وقد ازدحمت هذه السير بالأخيلة الرائعة والقصص الممتع الجميل الذي يستحيل أن يكون إسلامياً بحتاً، لأن نظرية رومة (فتحت أثينا عسكرياً وأثينا فتحت رومة ثقافياً) لابد أن تنطبق على المدينة من جهة، وعلى فارس والشام ومصر والأندلس من جهة أخرى. وما أشبه الرومان بالعرب وما أشبه الأعاجم بالأثنيين في تلك العصور السحيقة المتقادمة!

ولسنا نزعم أن وضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج قد انتحلوا ما جاء في الأنيد اعتباطاً، بل هم انتحلوه كما فعل الإسرائيليون حينما انتحلوا كل ما جاء في كتبهم أو أكثره فزوقوا به القصص الإسلامي. وإن مقارنة سريعة بين الجزء السادس من أنيد فرجيل وبين الروايات التي نَسَّقها وجعل منها قصة المعراج العالم المسلم نجم الدين الغيطي (٩٩٩هـ) لتجعلك تتأكد صدق استنباطنا، وتتفق معنا على أن الأدب اللاتيني، ومنه أدب فرجيل، قد

<<  <  ج:
ص:  >  >>