للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من نفسه بالتشكيك والريبة. ولا نغالي إذا نحسب أن أكثر الفاشلين في الحياة هم ممن كانت طفولتهم نزاعاً بين إهمال الوالدين وقسوة المحيط وبين ما ركِّب في نفوسهم وغرس في طباعهم من ميل جامح قوي لتأييد النفس وتوكيد الذات. وكم من طفل أعجزه أن يحوز رضى البيئة وتقدير الوالدين بأساليب مقبولة ووسائل سليمة، فراح بعدها يصطنع أغرب الوسائل وأخطرها في حاضر حياته وآتيها، كأن يعمد إلى نفسه يؤذيها أذى بليغاً أو يعمد إلى الغير يؤذيه مثل ذلك الأذى، أو كان يعمد إلى الآنية يحطمها والثياب يمزقها ولسان حاله يقول: هو ذا أنا أثبت كياني وأؤكد اقتداري وكفايتي بما ترون إن كان لا يعجبكم ولا ينبهكم إلي إلاَّ مثل ما تشهدون.

وليس من المتعذر أن تتصور حال مثل هذا الطفل، إذ يشب، كيف تكون. وليس من الصعب أن تتبين في مثل هذه الأعمال الشاذة أولى بوادر الإجرام والخروج على النظام وأوضاع الاجتماع. يحكى أن أفراد الشرطة في أمريكا ألقوا القبض، بعد لأي، على لص خطير اعتاد أن يتصدى للقطارات ويسلبها، واقتادوه إلى قاعة التحقيق. وبعد استجواب سيكولوجي دقيق دهش المحققون إذ استبان لهم أن هذا اللص كان في طفولته وحداثته كأشد الناس حياءً وخجلاً. ولما سئل فيم إصراره على أعمال العنف والإجرام أجاب بأنه إنما يفعلها ليؤكد لنفسه أنه ليس من الحياء وخور العزيمة كالذي يحس ويشعر.

هذا ويجب ألا يفوتنا أن معظم أنظمة التربية الحديثة مبنية على هذا الميل مستهدية به. فنظام الصفوف والمباريات والجوائز وما إليها من وسائل التحضيض والتشجيع تتهدى هذا الميل وتستغله. وليس من السهل أبداً أن تستبدل بهذا الدافع للعمل والإغراء به دافعاً آخر من ميول النفس وأهوائها.

ويشب الطفل فيجد نفسه بين الأمر الواقع من جد الحياة وبين هذا الميل القوي الذي لا يغفل ولا يهادن، ويجد نفسه بين العدد الذي لا يحصى من مثبِّطات العزم ومفترات السعي وبين ما أجَّج في نفسه وغرس في طبعه من حبِّ الغلب وشهوة الفوز وبروز الشخصية. فإذا أسعدته الهمة ولاءمته الظروف وسار سيرة ناجحة في الحياة نشأ نشأة بعيدة إجمالاً من شذوذ الطبع وغرابة الخلق وما يصاحبها من شذوذ العمل وانحراف السلوك. أما إذا عاندته الظروف وخانته الكفاية فهناك ما تشاء من شذوذ الطبع وغرابة السلوك. ولدينا صنوف

<<  <  ج:
ص:  >  >>