للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالعرب قد سمحوا للمسلم من أية أمة أن يباريهم في معاناة أدبهم كما باراهم في شؤون الحرب والحكم، فما لبث الأجانب الداخلون في العربية أن بذوا العرب في هذا الباب بحكم قديم ثقافتهم وتليد حضارتهم كما بذوهم في غيره، وما لبثوا أن صار منهم أئمة الأدب العربي، واستأثروا أو كادوا بكتابة الدواوين ووزارة الخلفاء وصلات الأمراء.

ولم يكن من الخير في شيء للأدب العربي أن يتسلط عليه أولئك الغرباء الواغلون، وكانت لهم فيه آثار سيئة: فهم مهما تكن ثقافتهم ومهما بلغ انكبابهم على دراسة العربية غرباء بطبعهم عن الأدب واللغة والذوق الأدبي العربي وتقاليده ومراميه، فلم يكتبوا أو ينظموا على السجية بل كانوا دائماً مقلدين متعلمين: قلدوا متقدمي العرب باندماجهم في العربية، فكانوا عنصر تقليد ومحافظة، لا عنصر ابتداع وتجديد في الأدب؛ وتعملوا في اللفظ تظاهراً بتفقههم في اللغة، فأدخلوا الصنعة والبهرج والزيغ في الأدب بدل أن يوسعوا أغراضه ويسموا بمعانيه.

فَسَريَانُ العنصر الأجنبي الأعجمي في الأدب هو مرجع تغلب الصنعة على الطبع في كثير منه، ومرجع تغلب نزعة التقليد على نزعة التجديد في كل عصوره. وكفى بهذين داعياً إلى جمود الأدب ثم تدهوره. ولا شك أنه لو بقى الأدب وقفاً على العرب الصميمين، وظلت الكلمة العليا للعرب في الدولة، وظلت هذه الدولة محدودة المساحة لا تتجاوز كثيراً حدودها الطبيعية، لجاء الأدب أقرب إلى الطبع وأحفل بمظاهر الفن وأوسع مدى وأسمى أفقاً وأطول عمراً، ولكان له تاريخ غير الذي كان.

أما الأدب الإنكليز - وسنن الإنجليز التي جروا عليها في توسعهم واتصالهم بالأمم الأخرى هي ما قدمنا - فكان أقطابه بعد قيام الإمبراطورية - كما كانوا قبلها - إنجليزاً أقحاحاً يعبرون عن الطبع الإنجليزي والبيئة الإنجليزية، ويفقهون روح لغتهم وتراث أدبهم، ويصدرون عن تقاليدهم المجيدة؛ فلا غرو جاء الأدب الإنجليزي طبيعياً فنياً صادق التعبير سامي المقصد بعيداً عن التكلف ثواراً على الجمود.

فهذا فرق ما بين الأمتين في الاتصال بالأجانب؛ وهناك فرق بينهما في الاتصال بآداب أولئك الأجانب لا يقل خطورة عن سابقه. فالعرب الذين قبلوا الأعاجم أنداداً في دينهم ولغتهم وأدبهم ترفعوا عن آداب تلك الأمم، ولم يروا بأنفسهم - وهم معادن البلاغة وفحول

<<  <  ج:
ص:  >  >>