للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هل كان لعمر هذه المكانة في التاريخ وهذه المنزلة في النفوس؟ هل كان يعيش إلى هذا العصر ويؤلف فيه عشرون كتاباً، ويبقى إلى العصر الآتي ويكتب فيه ألف كتاب؟

إن من يدقق في سيرة عمر، ويقابل بين عمر الجاهلية - على قلّة ما لدينا من أخباره - وعمر الإسلام، ويرى كيف استحال عمر من شخص إلى شخص، وتبدلت طبائعه وأفكاره في اللحظة التي وقف فيها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ونطق بكلمة الشهادة وكيف ولد في تلك اللحظة ولادة جديدة وبدأ يصعد في مدارج العلاء. . . إلى ذروة المجد. . . إلى الجنّة، علم أن عمر مدين للإسلام بكل شيء.

نعم، قد تظهر هذه العبقرية ولو لم يتداركها الإسلام، وتبدو آثارها، ويصبح عمر زعيماً من زعماء مكة، يبرز ويعظم أثره في قريش، ثم لا يتجاوز اسمه هذا الوادي الذي يمتد ستة أكيال من جرول إلى الحجون، بعرض كيلين أثنين - أما أن يتخطى أثره الأخشبين إلى البادية، ويقطع البادية إلى الشام والعراق، وينفذ إلى الأجيال الآتية فشيء لم يكن ليناله عمر لولا الإسلام.

وماذا كانت تصنع هذه العبقرية وهي محصورة في هذا الأفق الضيق؟ وما كان يصنع وهو يعيش في بلدة منقطعة عن العالم تائهة في لجٍّ من الرمال ما له آخر لا صلة لها بالبلدان العامرة إلا صلة التجارة الضعيفة، ولا تأتيها أخبار العالم إلا رثة بالية، ولا نبأ عندها من فلسفة يونان، أو حكمة الهند، أو أخبار السياسة الدَّوْلية بين فارس والروم؟

هل يغير مصباح محبوس في صندوق مغلق؟ أم يشتعل وحده لا يدرى به أحد، ثم يفنى زيته، فينطفئ وحده لا يعلم به إنسان؟

أما كانت تمضي عبقرية عمر كما مضت ألوف من العبقريات دفنت حية في بقعة معتزلة من بقاع الأرض، في قوم متأخرين، ولم تتصل بسمع التاريخ؟

أما إن عمر شعاعة من نور الإسلام، ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم!

- ٤ -

لما استفاق بنو قريش من الغشية التي أصابتهم عند ما أسلم عمر عادوا يكيدون للدين، ويؤذون النبي والمسلمين، والنبي (صلى الله عليه وسلم) ماضٍ في دعوتهم، صابر على

<<  <  ج:
ص:  >  >>