للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسار المجاهد، رافع الرأس، منتصب القامة، يتلألأ على وجهه نور اليقين، ويرف عليه روح من الحق، قال وكأنه يخاطب نفسه:

ليست حقيقة الحياة في الحياة، وإنما هي فيما وراءها؛ وليس الموت في سبيل الحق غير اتحاد بهذه الحقيقة التي هي (الله).

للفضيلة دربٌ مختصر، وهو أن تضع بدل كلمة (أنا) (نحن)، والحجة القاطعة على أنك وضعت هذه بدل تلك أن تكتبها بدمك، لتقيمها على حجارة رمسك.

ليس العمر مجموعة أيام، وإنما هو سجل أعمال؛ فرب كهل لم يعش غير أيام، ورب فتىً لا تحصر عمره الأعوام؛ فإذا لم يك من الموت بد، فلم لا تزد بعمرك ساعة جهاد، لتطاول الحقب ولتدرج مع الأجيال؟

يقولون إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، أتدري لماذا؟ لأن من يستعلي على الظلم ساعة في ساحة الموت، يشارك الحكمة الأزلية في عملها، وهي الجهاد لتثبيت الحق، في هذه الأرض. فمحالٌ أن ترضى الحكمة الخالدة في غير نزوله في كنفها. . . . . في الجنة.

وطويت الأرض تحت قدمي المجاهد، فسار يلفُّ السهل بالحزن، ويطوي البيد، حتى شارف المعركة، فوقف يتأملها برهة، وقد فاضت عليه قدسية الجهاد، والتمعت عيناه ببريق جميل، هو بريق عظمة الموت، فأخذ يتمتم:

إيه يا وطني! سماؤك وأرضك، جبالك الشم ووهادك الفيح، كلٌّ لها في القلب موطن حرمةٍ وجلال. تمنيت أن لي ألف نفسٍ أفديك بها، ولكنها نفسٌ واحدة، فدونكها جهد المُقل.

إيه يا وطني! مهبط الذكريات، ومغدى الأمل، غذتني تربتك، وبعثت فيَّ الحياة نسماتك؛ ليس الظلم المخيم على ربوعك إلا جزءاً من الظلم المنيخ على العالم بكلكله، وفي هذا بعض العزاء.

إيه يا وطني! هانحن أولاء تسارعنا لنجدتك، لا نطلب خلوداً، فإننا نعرف التاريخ لا يتسع صدره لذكر أمثالنا. ليس التاريخ إلا سير العظماء، وهيهات أن تعرف الدنيا إلا ضرباً واحداً منهم، أقواهم وأقدرهم على الفتك والظلم الذي زحفنا لصدامه، ولسنا نطلب جاهاً أو متاعاً من متاع الفانية فإننا نعرف أن التكالب على الجاه في ظل العبودية، قتالٌ على الجيفة، تقوم به طائفة نسميها الكلاب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>