للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على حسن الأحدوثة يتحلى به أو يحب أن يعرف عنه.

وتفنن المتهكمون بالبخلاء، فتحدثوا عن وعودهم الممطولة، وحجابهم الغلاظ، وهباتهم الضئيلة: كالطيالس التي تتجنى الذنوب على الرياح، وتعرف الطريق إلى الرفاء، من كثرة تردادها عليه صباح مساء.

ومن بارع التهكم بأدعياء النسبة العربية قول بشار:

أرفق بعمرو إذ حركت نِسْبَتَهُ ... فإنه عربي من قوارير

ما زال في كير حداد يردده ... حتى غدا عربياً مظلم النور

ويشترك الأدبان العربي والإنجليزي في أبواب من الفكاهة خاصة، لعلها تستثير روح العبث في النفس الإنسانية على اختلاف الأجيال والأمم، كالمتحذلقين من أهل الفنون من شعراء وممثلين ومغنين والمدعين لتلك الفنون وأشباهها. فالتحذلق والادعاء سببان خالدان من أسباب ولوع الناس بالمتصفين بهما، وما يزال المرء بخير حتى يدَّعي ما ليس له ويتكلف الأغراب؛ والنفس الإنسانية بطيئة متثاقلة إلى الاعتراف بفضل الأغيار، دع عنك الاعتراف بالفضل لمن يدعيه وليس من ذوبه؛ هناك تثور النفوس وتلجأ إلى أقسى أسلحتها وهو التهكم.

فشكسبير يسخر على لسان هملت من متحذلقي الممثلين في عصره، ويجعل الثائرين المطالبين بدم قيصر ينصرفون هنيهة عن وجهتهم إلى مهاجمة شاعر لغثاثة شعره؛ والجاحظ يقول في صاحب له متحذلق متعالم: (يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب)، وابن الرومي أوْسَعَ من لم يَحمَدْ من المغنين والمغنيات تهكما، وصوّر أحدهم أقبح صورة في قوله:

وتحسب العينُ فكّيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّيْ بغل طحان

وفي الأدب الإنجليزي ضروب من الفكاهة منتزعة من مجتمعِهِ الخاصة: كالتهكم بالمدعين النبل الاجتماعي، والمحْدَثي النعمة، والمتشدقين بضخم الكلمات لا يفقهون معانيها؛ ذلك أن المجتمع الإنجليزي - على كون نظامه الحكومي ديموقراطياً - هو أرستقراطي شديد التفريق بين الطبقات، يتعالى النبلاء فيه عن الدهماء تعالياً لا يقل عن ترفعهم عن أبناء

<<  <  ج:
ص:  >  >>