للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ترقب هذه الصورة البشعة وتتحول عنها بزفرة حارة. وعندما كانوا يبارحونه كانوا يلقون عليه نظرة فضولية أخيرة وهم عاجزون عن الفهم، ثم يصعدون الزفرات! كأن هناك شيئاً مشتركاً بين هؤلاء الرجال الأحرار وهذا الوحش السجين. وأخذت بعد ذلك كلما ذكر الناس الخلود وتحدثت الكتب عن الأبدية، أفكر في هذا النمر الأرقط، وأتصور أني أعرف الخلود وعذابه.

لقد غدوت في محبسي الحجري نمراً أرقط. . . سرت في المكان مفكراً على خط واحد في عرض محبسي من ركن إلى ركن، وفكري يتجول معي في خط قصير أيضاً. أفكار ثقيلة وطأتها علي، خيل إليّ بأني لا أحمل رأساً على كاهلي، وإنما أحمل الدنيا كلها على عاتقي. . وكانت هذه الأفكار تحوي كلمة واحدة ولكن ما أكبرها وأهولها كلمة. وما أعلقها بغيابات الأقدار!

(أكاذيب. . .) هذه هي الكلمة.

وأخذت هذه الكلمة تفح مرة أرخى من كل ركن، ثم التفت حولي. . ولكنها لم تعد حية صغيرة كما كانت، وإنما انقلبت ثعباناً ضخماً مفترساً تلمع عيناه. أخذ يلسعني بلسعاته. ولما صحت متألماً خرج من فمي صفير كريه. . . كصفير الثعابين، كأنما احتشد صدري بضروب الزواحف.

(أكاذيب).

مشيت غارقاً في أفكاري والأرض المقيّرة الناعمة الخضراء. . . غدت في عيني هاوية شفافة سحيقة مالها من قرار، وأصبحت قدماي لا تحسان ببرودة الحجر تحتهما، وتصورت نفسي أسبح في علو شاهق فوق الضباب والظلام، ولما خلص صدري من الزفرة السامة. . . من هناك. . . من القاع. . . من هذا الحجاب الرقيق الذي مع رقته لا تنفذ إليه العين، دوي يبطئ صدى مروع. . . كان الصدى بطيئاً جداً كأنه يعبر آلاف السنين، وهو في كل دقيقة وزفرة يفقد بعض قوته. أدركت بأن هناك في باطن القاع كانت الرياح الهوج التي تعصف بالأشجار تصفر. . . ولكن صفيرها وصل إلى أذني كأعقاب الأخبار السيئة تحمل في طياتها كلمة واحدة قصيرة:

(أكاذيب).

<<  <  ج:
ص:  >  >>