للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمض عليه يوم حتى سمع من ينشد:

فيم الإقامة بالزوراء؟ لا شكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي!

فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل، أن: فيم الإقامة بالزوراء؟ فغلب العقل واستحذى وذهب يستعد لمعركة أخرى. . .

ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو ونرجو له، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحف به قراؤه والمعجبون به، وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغض إليه وأشد عليه من هذه الاجتماعات، فكان يعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاءوا إلا من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار، ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. . وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سد أنفه وفمه، وإنا لنلومه ونثقل عليه الملام، فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف، ويقر بالعجز، فنرحمه ونكف عنه.

إنه لا يستطيع أن يحمل اسمه، لا يقدر أن يتلقى بوجهه وجسمه هذا الإعجاب الذي يزعمون أنهم يوجهونه إلى الشخص الآخر الذي ينشر في (الرسالة) كأن له شخصيتين، فهذه التي يأكل بها ويشرب ويمشي ويضحك ويمزح غير تلك التي يفكر بها ويكتب ويؤلف وليس بينهما من صلة ولا يربطهما سبب من الأسباب. والعجيب من أمره أنه يضيق بالكلام في مثل هذه المجالس ويتهيبه، وتظنه أول ما تلقاه حيياً عيياً لا يفصح ولا يبين، فإذا أنت اتصلت به وعلقت حبالك بحباله، رأيته مفوهاً طلق اللسان شديد البيان. وإن أنت خالطته وعرفت دخيلته أبصرته لا يتهيب موقفاً خطابياً مهما كان شأنه، ولا يخشاه ما يخشى الرد على ألفاظ المجاملة ويتهيب مجلس تعارف وانتساب.

كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه ومله، وعلم أن الاشتغال بالأدب للذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر، إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلاً، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة في طريقها، أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>