للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحرب، وبين مقاومة صلبة فدائية تعتمد على الحق وإمداد الايمان؛ فسألنا الشمس أم الحياة أن تشرق بالأمل على قلوب أبناء عمومتنا، وأن تنضح مضاجع الشهداء بالشعاع المسكوب!

ثم أوفت بنا السفينة إلى بيروت وقد مال ميزان النهار إلى الغروب، فلاحت (الحمراء) في سفح لبنان كغادة نائمة في حضن جبار. فودعنا البحر واستجممنا قليلاً، ثم اجتزنا لبنان في طريق كسير الأفعي فلم نر منه غي جماله النائم، وعهدي به منذ ثلاث سنين في ضحوة النهار، أرض الفتنة والسحر.

لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأجمل منهما ملكوته

ونزلنا دمشق عرش أمية الفاتحة الماهدة لدولات العرب طريق الحضارة والاستقرار في الوطن الكبير، فما رأينا منها إلا كما يرى النظر الطائر من مدينة تتثاءب لهجعة الليل. وما هي إلا بقية من سواد قضيناها في فندق أمية حتى غدونا مصبحين مسرعين إلى سيارات الصحراء. . . وهكذا خرجنا من الفيحاء من غير أن نرى أفراحها ومباهجها لاسترداد حريتها واستقبال وفدها، ومن غير أن نحج إلى مناسك جهادها وأعلام تاريخها.

فلما جاوزنا أرباض المدينة، وابتدأت صفرة الصحراء تطغى على خضرة الزرع، أخذت أجمع نفسي وأرهف حسي لأستقبل المجهول الذي طالما تاقت الروح إلى اختراق غيوبه وهتك حجابه حتى ترى ما فيه من صور الصمت والهول والوحشة، ونستلهم سماءه بعض المعاني التي فتقت ألسنة آبائنا بهذه الألفاظ البدوية الواعية لما أتت به الحضارات والمترجمة عن خلجات النفسي ودقائق الأحاسيس.

وهنا ابتدأ شعور مفاجئ لا تاريخ له في قلبي، فحملق البصر وتفرس في ذلك الرحب ليرى ظلال الأجناد والأحداث التي قلب بها القدر أوضاع الأرض بأيدي محمد وأبي بكر وعمر، وطغيان الموجات العربية في فترات التاريخ، وولادة الجزيرة، واحتضان العراق والشام ومصر لما تلد؛ ثم انحسرت هذه النظرة الأولى وارتدت تستنشد اللسان قول لبيد:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع!

ثم احتدمت الهاجرة، والتهب الهواء، والمع السراب، وبرزت الصحراء الحمراء عارية تحت عين الشمس، ونحن فيها (كركْبٍ م الجَنّ في ِزي ناسٍ) فوق مركب (يملأ الآفاق

<<  <  ج:
ص:  >  >>