للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يترشَّفن من فَمي رَشفاتٍ ... هُن فيه حلاوةُ التوحيد

وهو في هذه الرواية أخف في الاستهتار من روايته الأولى وهي الرواية المشهورة.

فلما جاوز في قصيدته هذا كله، ووصل إلى مقصوده من الفخر بنفسه وشكوى حاله، وحمل نفسه على تحمل الصعاب في سبيل آماله، كانت آماله أشياء أخرى دنيوية، ولم تكن هي الآمال التي تنسب إليه في دعوى النبوة؛ فليس لهذه الآمال ذكر هنا، ولا تشتم لها فيه رائحة، وإنما هو هنا رجل يسعى في اكتساب المجد، ويكد في طلب الغنى والمال، ويشكو من إخفاقه في هذا الطلب مع كثرة سعيه فيه:

ضاق صدري وطال في طلب الرَّزْ ... قِ قيامي وقَلَّ عنه قعودي

أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سُعُود

وهو أبداً مولع بذلك الاستهتار حتى في مقام الجد، فإذا أمر بطلب العز لا يفوته أن يقول إنه خير من الذل ولو كان في جنة الخلد، وأن يفضله ولو كان في لظى على الذل.

فاطلب العزَّ في لَظى وذَر الذ ... لَّ ولو كانَ في جنان الخلود

فمثل هذا لا يصح أن يكون من شخص يدعي النبوة، ويدعو الناس إلى العمل الذي يوصلهم إلى نعيم الله في الجنة. ولا فرق بينه في هذا وبين ذلك الشاعر الجاهلي الذي سبقه إلى ذلك المعنى، وكان له من جاهليته ما يهون من أمره فيه، وهو ذلك الشاعر الذي يقول:

حكم سيوفك في رقاب العذل ... وإذا بليتَ بدار ذلٍّ فارحل

دار النعيم بذلةٍ كجهَنمٍ ... وجهنم بالعز أَكرم منزلِ

وكذلك هذا الفخر لا يليق ممن يدعي النبوة:

إن أكن معجباً فَعُجبُ عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترْب النَّدى ورَبُّ القوافي ... وسمامُ العدى وغيظ الحسود

وهكذا نخرج من دراسة هذه القصيدة بيقين لا شك فيه، أنها لا تتفق مع تلك النبوة المزعومة للمتنبي، فأما أن تكون هذه القصيدة مختلقة عليه، وأما أن تكون تلك النبوة مكذوبة. وإذا كانت هذه القصيدة للمتنبي باتفاق الفريقين المختلفين في أمر نبوته، فأن تلك النبوة تكون هي المكذوبة قطعاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>