للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الزمان من مصر هل يبقى غير أشلاء من بقايا السوط وأنضاء من ضحايا الجور وأشباح طائفة ترتل (كتاب الأموات) وجباه ضارعة تسجد للصخور وتعنو للعجماوات وقبور ذهبية الأحشاء ابتلعت الدور حتى زحمت بانتفاخها الأرض وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة؟ وهل ذلك إلا الماضي الأبعد الذي تريدون أن يكون قاعدة لمصر الحديثة تصور بألوانه وتشدو بألحانه وتحيا أخيراً بروحه؟ ولكن أين تحسون بالله هذه الروح؟ أن أرواح الشعوب لا تنتقل إلى الأعقاب ألا في نتاج العقول والقرائح، فهل كشفتم بجانب الهياكل الموحشة والقبور الصم مكتبة واحدة تحدثكم عن فلسفة كفلسفة اليونان، وتشريع كتشريع الرومان وشعر كشعر العرب؟ أم الحق أن مصر القديمة دفين فنيت روحه مع الآلهة، وصحائف موت سرها مع الكهنة، والخامد لا يبعث حياة والجامد لا يلد حركة؟!

لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلا من كتاب المجد العربي، لأنها لا تجد مدداً لحيويتها، ولا سندا لقوتها، ولا أساساً لثقافتها ألا في رسالة العرب. أمَّا أنْ يكون لأدبها طابعه، ولفنها لونه، فذلك قانون الطبيعة ولا شان لمينا ولا ليعرب فيه: لأن الآداب والفنون ملاكها الخيال، والخيال غذاؤه الحس، والحس موضوعه البيئة، والبيئة عمل من أعمال الطبيعة يختلف باختلافها في كل قطر. فإذا لم يوفق الفنان بين عمله وعمل الطبيعة، ويؤلف بين روحة وروح البيئة، فاته (اللون المحلى) وهو شرط جوهري لصدق الأسلوب وسلامة الصورة. وقديما كان لون الأدب في الحجاز غيره في نجد، وفي العراق غيره في الشام. وفي مصر غيره في الأندلس، دون أن يسبق هذا التغاير دعوة ولا أن يلحق به اثر! انشروا ما ضمنت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقى في يديه من أكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن فخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، ولكن اذكروا دائماً أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وان اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وان القيثار الذي توقعون عليه الحان النيل هو قيثار أمرىء القيس، وأن آثار العرب المعنوية التي لا تزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذي العالم، هي أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر، وأجدى على الناس، من صفائح الذهب وجنادل

<<  <  ج:
ص:  >  >>