للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اللسان المرقع. . .]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا: جاء (حضرة صاحب السعادة) فلان لزيارة الباشا؛ وهو رجل مصري ولد في بعض القُرى، ما نعلم أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهوٍ ولا وضعه موضع الوسط بين فَنَّين من الخليقة. غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألواناً، فهو مصري ملون. ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك، فما يظهر له دين قومه إلا مقابلاً لشهوات أحبها وغامر فيها، ولا لغة قومه إلا مقرونة بلغة أخرى ودَّ لو كان من أهلها، ولا تاريخُ قومه إلا مغمى عليه. . . كالميت بين تواريخ الأمم

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعَّمين: مصري المال فقط، إذ كانت أسبابهم ومستغلاتهم في مصر؛ عربيُّ الاسم لا غير، إذ كانت أسماؤهم من جناية أهلهم بالطبيعة؛ مُسلُم ما مضى دون ما هو حاضر، إذ كان لا حيلة في أنسابهم التي انحدروا منها

هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعِّمين المفتونين بالمدنية، لكل منهم جنسه المصريَُ ولفكره جنس آخر

قال: وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية التي تلعنها العربية، مرتفعاً بها عن لغة الفصيح ارتفاعاً منحطاً. . . نازلاً بها عن لغة السوقة نزولاً عالياً. . . فكان يرتضخ لكنة أعجميةً بينا هي في بعض الألفاظ جرسٌ عال يطن، إذا هي في لفظ آخر صوت مريض يئنّ، إذا هي في كلمة ثالثة نغم موسيقي يرن. ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية، لا تظرفاً ولا تملحاً ولا إظهاراً لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه. فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذِّب وطنية لسانه، وهو بإحداهما زائفٌ على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه.

فلما انصرف الرجل قال الباشا: أفٍّ لهذا وأمثال هذا! أفٍ لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يلقبونه (حضرة صاحب السعادة)، ولأشرفُ منه والله رجلٌ قرويُ ساذج يكون لقبه (حضرة صاحب الجاموسة). . . . نعم إن الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلاً فانه

<<  <  ج:
ص:  >  >>